✍️ م. مصطفى كامل الشريف
باحث ومستشار في الأمن السيبراني والسيادة الرقمية – الدنمارك / العراق
المقدّمة
في عالمٍ تتقدّم فيه الدول رقميًا كما كانت تتقدّم صناعيًا قبل قرن، لم يعد الأمن السيبراني مسألةً تقنيةً فحسب، بل أصبح مرآةً لوعي الدولة بسيادتها الرقمية. ومع كل تقرير تصدره الأمم المتحدة أو الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) أو معهد بورتولانز (Portulans Institute)، تتّضح الفجوة الرقمية التي يعيشها العراق؛ فبحسب مؤشر الجاهزية الشبكية (NRI) لعام 2024، جاء العراق خارج التصنيف العالمي تمامًا، في حين شمل المؤشر 133 دولة كان اليمن في ذيلها بالمرتبة الأخيرة.
هذا الغياب لا يعبّر عن ضعفٍ في التقنية بقدر ما يكشف فراغًا في الرؤية والحوكمة والسيادة المعلوماتية، إذ إن خروج العراق من التصنيف يعني أن المؤسسات الدولية لم تجد بيانات كافية لتقييم جاهزيته الرقمية في محاور البنية التحتية والابتكار والحوكمة الرقمية.إن ربط المفاهيم النظرية بالواقع المحلي لم يعد ترفًا أكاديميًا، بل أصبح ركيزةً للوعي السيبراني الوطني؛ فالأرقام لا تكذب، ومن موقع العراق في المؤشرات الدولية يمكننا أن نقرأ بوضوح أين نحن، ولماذا تراجعنا، وإلى أين يُمكن أن نصل إذا ما تبنّينا رؤية سيادية رقمية واضحة.
يهدف هذا المقال إلى تحليل موقع العراق في المؤشرات الرقمية الدولية، وبيان العلاقة بين ضعف جاهزية البنية التحتية وتراجع التصنيفات العالمية في EGDI وGCI، مع اقتراح معالجات تشريعية وسيادية واقعية تعيد رسم خارطة التحول الرقمي العراقي على أسس سيادةٍ رقميةٍ وطنية.
أولًا: مؤشر الجاهزية الشبكية (NRI) – العراق خارج التصنيف لعام 2024
يُعدّ مؤشر الجاهزية الشبكية (Network Readiness Index – NRI) أحد أهم المؤشرات العالمية التي تُقيس مدى استعداد الدول للتحول الرقمي من خلال أربعة محاور رئيسية: البنية التحتية، والحوكمة، ورأس المال البشري، والابتكار.وبحسب تقرير NRI لعام 2024 الصادر عن Portulans Institute، شمل التصنيف 133 دولة حول العالم، جاءت اليمن في المرتبة 133 والأخيرة، بينما لم يُدرج العراق نهائيًا في التصنيف (Out of Ranking) بسبب غياب البيانات الوطنية الرقمية اللازمة لحساب المؤشرات الفرعية.
هذا الغياب يعني أن المؤسسات الدولية (مثل البنك الدولي والاتحاد الدولي للاتصالات) لم تتمكن من الحصول على بيانات محدثة حول مؤشرات العراق في مجالات سرعة الإنترنت، وانتشار الألياف البصرية، واستقرار الطاقة، وكفاءة مراكز البيانات، واستثمارات تكنولوجيا المعلومات،
مما وضع العراق فعليًا خارج الرادار الرقمي العالمي، أي في موقع “البلد غير القابل للقياس رقمياً”.
ويعكس ذلك ضعفًا هيكليًا في منظومة البنية التحتية الرقمية التي تُعد الركيزة الأساسية لأي مشروع للتحول الرقمي أو الأمن السيبراني السيادي. فغياب المؤشرات لا يعني فقط ضعف الأداء الفني، بل يُشير أيضًا إلى غياب الإطار المؤسسي الوطني الذي يُنتج هذه البيانات ويحدّثها دوريًا. وبذلك يبقى العراق من الدول القليلة التي لا تمتلك مرصدًا وطنيًا للجاهزية الرقمية أو منظومة قياس سيادية مرتبطة بالاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) والبنك الدولي.
ملاحظة /
أنا شخصياً تواصلت مع اللجنة المختصة لأعداد التقرير أبلغوني عدم وجود الشفافية و لا نستطيع الوصول الى المعلومات ولا يوجد من يطلعنا على المستجدات كل هذه العوامل جعلت من العراق خارج التصنيف .
على الرغم من وجود بنى تحتية جيدة على الأقل أفضل من بعض الدول الافريقية التي دخلت التصنيف. التقصير اداري بحت.
مقارنة عربية في مؤشر NRI 2024-
المصدر راجع صفحة 45-46 في التقرير
| الدولة | الترتيب العالمي | الحالة |
|---|---|---|
| الإمارات 🇦🇪 | 25 | مرتفع جدًا |
| قطر 🇶🇦 | 30 | مرتفع |
| السعودية 🇸🇦 | 32 | مرتفع |
| البحرين 🇧🇭 | 38 | مرتفع |
| الكويت 🇰🇼 | 51 | متوسط مرتفع |
| الأردن 🇯🇴 | 64 | متوسط |
| مصر 🇪🇬 | 79 | متوسط منخفض |
| تونس 🇹🇳 | 91 | متوسط منخفض |
| الجزائر 🇩🇿 | 111 | منخفض |
| المغرب 🇲🇦 | 117 | منخفض |
| لبنان 🇱🇧 | 125 | منخفض جدًا |
| اليمن 🇾🇪 | 133 | الأخير في التصنيف |
| العراق 🇮🇶 | — ——- | خارج التصنيف (No Data / Not Ranked) |
الدلالات السيادية
إن خروج العراق من مؤشر NRI لا يعني فقط ضعف الجاهزية الرقمية،بل يشير إلى انقطاع الدولة عن منظومة القياس الدولية التي تُمكّن من تقييم التطور التكنولوجي والاستثمار في البنى التحتية الرقمية.ويؤكد هذا الواقع الحاجة إلى إنشاء مرصد وطني للجاهزية الرقمية والسيادة السيبرانية،يرتبط رسميًا بالبنك الدولي والـ ITU، ويُحدث بيانات العراق بشكل دوري لضمان ظهوره في تقارير الأعوام القادمة.
ثانيًا: مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية (EGDI) – سقوط حر خلال عقدين
وفق تقرير الأمم المتحدة لعام 2024، احتل العراق المرتبة 148 عالميًا في مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية (EGDI – E-Government Development Index)، بعد أن كان في المرتبة 143 عام 2020،بينما في عام 2004 مع بدايات التحول الإلكتروني عالميًا كان العراق في المرتبة 103.
أي أننا خلال عشرين سنة كاملة تراجعنا أكثر من 45 مرتبة،في وقتٍ صعدت فيه معظم دول المنطقة عشرات المراكز بفضل الاستثمار في البنية الرقمية والحوكمة.هذا التراجع ليس رقمًا عابرًا، بل دليل على غياب الرؤية والسياسات الرقمية المستقرة،وعلى أن التحول الإلكتروني في العراق ما زال يُدار بردّات فعل لا بخطط وطنية. سقوطٌ عموديٌّ متواصل لا يمكن إيقافه إلا حين تصبح الرقمنة مشروع دولة لا مشروع دائرة أو وزارة،ويُدار من خلال مجلس سيادي للتحول الرقمي يربط الأمن بالحوكمة والسيادة في إطار واحد.



ثالثًا: مؤشر الأمن السيبراني العالمي (GCI) – الضعف المؤسسي قبل التقني
إلى جانب تدني التحول الرقمي، يُظهر المؤشر العالمي للأمن السيبراني (Global Cybersecurity Index – GCI) الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)،أن العراق في المرتبة 134 عالميًا من أصل 194 دولة بحسب آخر تحديث (2023–2024)، أي في الفئة الرابعة ومجموع 53%.وهو ترتيب يضعه ضمن أضعف عشر دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث النضج السيبراني.هذا التصنيف لا يعني غياب القدرات التقنية بالكامل، بل يعكس ضعف البنية التنظيمية والمؤسسية ضمن المحاور الخمسة التي يعتمدها المؤشر:
- الإطار القانوني (Legal Measures): غياب قانون فعّال لجرائم المعلوماتية.
- الإطار التنظيمي (Organizational Measures): عدم وجود هيئة سيبرانية وطنية بصلاحيات تنفيذية.
- القدرات البشرية (Capacity Building): ضعف البرامج الأكاديمية والتدريبية.
- التعاون الدولي (Cooperation): مشاركة محدودة في شبكات الإنذار الإقليمي.
- القياسات التقنية (Technical Measures): محدودية عمل مراكز الاستجابة للحوادث (CSIRTs) الوطنية.
النتيجة:
يبقى ترتيب العراق المنخفض انعكاسًا لضعف النظام السيبراني الوطني لا لضعف الأفراد،
إذ لا توجد حتى اليوم منظومة موحدة لإدارة الحوادث، أو مركز سيادي لرصد واحتواء التهديدات،
ولا تشريع واضح يحدد مسؤولية الجهات الحكومية والخاصة عند وقوع الخرق.

رابعًا: لماذا هذا التراجع ؟
الجواب ببساطة:
لأن الركيزة الأهم – الحوكمة الرقمية – غائبة عن أجندة الدولة.
فالغياب هنا لا يقتصر على الإدارة أو التنسيق،بل يمتد ليشمل المنظومة التشريعية والسيادية التي تُبنى داخل إطار الحوكمة.فالحوكمة الرقمية ليست مجرد تنظيم إداري،بل هي “العقل المركزي” الذي ينسّق العلاقة بين الأمن، والسيادة، والقانون،ويحوّل التقنية من أدوات تشغيلية إلى سياسة وطنية قائمة على الرؤية والمعايير.لدينا اليوم كوادر تقنية كفوءة، وأنظمة أمنية متفرقة، وجهود فردية مخلصة،
لكننا نفتقد إلى الإطار الوطني الموحّد الذي يربط بين:
- الأمن السيبراني،
- السيادة الرقمية،
- التحول الحكومي الإلكتروني،
- والتشريعات الرقمية الداعمة.
إن غياب الحوكمة الرقمية يعني بالضرورة غياب الركائز الثلاث التي تُشكّل العمود الفقري للسيادة الرقمية، وهي:
- قانون السيادة الرقمية الذي يحمي القرار الوطني من التبعية التقنية.
- قانون حوكمة البيانات والسيادة المعلوماتية الذي ينظم ملكية البيانات وتوطينها داخل الحدود الوطنية.
- قانون الجرائم الرقمية الذي يوفر الردع القانوني ويؤسس لثقافة أمنية مجتمعية.
فالحوكمة هي الإطار الذي تنبثق منه هذه القوانين، وبدونها تبقى التشريعات مبعثرة، بلا قيادة ولا رؤية تنفيذية موحدة.فعندما نتحدث عن EGDI لا نتحدث عن رقم في تقرير،بل عن مدى قدرة المواطن العراقي على الوصول إلى خدمة حكومية إلكترونية آمنة ومتكاملة.وحين نذكر GCI، فنحن لا نقيس التقنية فقط، بل مدى نضج المنظومة الوطنية في حماية بياناتها وسيادتها.
بكلمة واحدة:
غياب الحوكمة هو غياب الرؤية،
وغياب الرؤية هو غياب السيادة.
خامسًا: التشريعات الغائبة – الحلقة المفقودة
حتى الآن، لا يمتلك العراق منظومة قانونية متكاملة تنظّم الأمن السيبراني والسيادة الرقمية. ومن دونها ستبقى الاستراتيجيات مجرّد شعارات لا تُنفّذ.إن أيّ دولة لا تستطيع حماية فضائها الرقمي إن لم تملك هذه القوانين الثلاثة:
- قانون الجرائم الرقمية
يحمي المجتمع والدولة من التهديدات السيبرانية ويحدد المسؤوليات والعقوبات. - قانون حوكمة البيانات والسيادة المعلوماتية
ينظم ملكية البيانات وتوطينها داخل الحدود الوطنية ويمنع تسربها للخارج. - قانون السيادة الرقمية
يؤطّر العلاقة بين الدولة ومزودي الخدمات العالمية،
ويضمن ألا تتحول البنية التحتية الرقمية العراقية إلى “إقطاعيات سحابية” بيد الشركات الأجنبية. - بدون هذه القوانين، سيبقى الأمن السيبراني ردّ فعل متأخرًا،وتبقى السيادة الرقمية شعارًا بلا مضمون.
الخاتمة: رسالتي لمن يهمه الأمر
إن ترتيب العراق المتدنّي في مؤشرات التحول الرقمي والأمن السيبراني ليس نتيجة صدفة، بل حصيلة تراكمات مؤسسية وتشريعية وفكرية جعلت التقنية تُدار بمعزلٍ عن الحوكمة والمعايير.لقد تحوّل الأمن السيبراني في مؤسساتنا إلى استجابةٍ ظرفية بدل أن يكون بنية استراتيجية للدولة،وتحوّل التحول الرقمي إلى مشاريع متفرّقة تفتقر إلى معيارية التنفيذ والقياس.إننا اليوم أمام لحظة مفصلية تتطلّب تحويل السياسات الرقمية من مبادرات تقنية إلى مشروع وطني سيادي،تُدار فيه البيانات كما تُدار الموارد الطبيعية،ويُحمى فيه الفضاء الرقمي كما تُحمى الحدود الجغرافية.
ولن يتحقّق هذا التحوّل ما لم نمتلك إرادة تشريعية وتنظيمية واضحة تُرسّخ ثلاث ركائز أساسية:
- حوكمة رقمية وطنية شفافة.
- تشريعات سيادية ملزمة (جرائم رقمية، حوكمة بيانات، سيادة رقمية).
- اعتماد الأطر والمعايير العالمية في تنفيذ كل مشروع تقني.
فالمعايير ليست ترفًا تنظيميًا، بل هي الإطار الذي يصنع الاستدامة، ويمنح الدولة قدرة القياس والمقارنة والمساءلة.ولو التزمنا بهذه المعايير منذ عقدٍ مضى،لما وصل العراق إلى هذا المستوى المتدنّي في التصنيفات الرقمية الدولية،ولكانت مشاريعنا التقنية رافعةً للسيادة لا عبئًا إداريًا.العراق لا يحتاج إلى مزيدٍ من التصريحات،بل إلى هندسة جديدة للدولة الرقمية تجعل من الأمن السيبراني ثقافة مؤسساتية وسياسة وطنية،ومن التحول الرقمي أداةً للنهضة والسيادة لا للعرض الإعلامي.
.
المصادر
- الأمم المتحدة (United Nations).
تقرير الحكومة الإلكترونية (E-Government Survey) للأعوام 2004، 2020، 2024.
إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية – نيويورك، الولايات المتحدة. - الاتحاد الدولي للاتصالات (International Telecommunication Union – ITU).
المؤشر العالمي للأمن السيبراني (Global Cybersecurity Index 2023/2024).
جنيف، سويسرا. - الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU).
قياس التنمية الرقمية: الحقائق والأرقام (Measuring Digital Development: Facts and Figures 2024).
جنيف، سويسرا. - البنك الدولي والاتحاد الدولي للاتصالات (World Bank & ITU).
مؤشر جاهزية البنية التحتية الرقمية (Digital Infrastructure Readiness Index 2024).
واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة. - البنك الدولي (World Bank).
تقرير التنمية العالمية: العوائد الرقمية (World Development Report – Digital Dividends 2024).
واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة. - منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
مراجعة الحكومة الرقمية 2024 (Digital Government Review 2024).
باريس، فرنسا. - المفوضية الأوروبية (European Commission).
قانون حوكمة البيانات (Data Governance Act 2022).
بروكسل، بلجيكا. - الاتحاد الأوروبي (European Union).
اللائحة العامة لحماية - معهد بورتولانز، “مؤشر الجاهزية الشبكية لعام 2024″، تشرين الثاني / نوفمبر 2024. أضغط هنا


