م. مصطفى الشريف – باحث ومستشار في أمن المعلومات والسيادة الرقمية
مقدمة: من الثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية
يشهد العالم اليوم تحولًا جذريًا في بنية الاقتصاد العالمي، حيث لم تعد الثروة تُقاس فقط بالموارد الطبيعية أو رأس المال المالي، بل أصبحت المعرفة والبيانات والتكنولوجيا والابتكار هي الركائز الحقيقية للقوة الاقتصادية. في هذا الإطار، تمثل البيانات المورد السيادي الجديد الذي تُبنى عليه الصناعات الرقمية، وتُدار عبره القرارات الاقتصادية، وتُقاس من خلاله كفاءة الدول في إدارة مواردها.
ومن هنا، غدت ريادة الأعمال الرقمية والابتكار التكنولوجي القلب النابض للاقتصاد الحديث، إذ تقود مسيرة التحول نحو ما يُعرف بـ “الاقتصاد السيادي الرقمي”؛ اقتصادٍ يُبنى على الابتكار المحلي، وحماية البيانات الوطنية، واستقلال القرار التكنولوجي عن الهيمنة الخارجية.
أولًا: مفهوم الابتكار الرقمي وريادة الأعمال
يشير الابتكار الرقمي إلى عملية استخدام التقنيات الحديثة – كالذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء – لإنتاج حلول جديدة أو تحسين العمليات والخدمات القائمة.
أما ريادة الأعمال الرقمية فهي توظيف الابتكار في إنشاء مشاريع وشركات قائمة على التكنولوجيا، تهدف إلى تقديم منتجات رقمية أو خدمات ذكية بأساليب غير تقليدية.
ويمثل التلاقي بين المفهومين نقطة الانطلاق نحو بناء اقتصاد رقمي متجدد يعتمد على الإبداع بدلاً من الموارد، وعلى المواهب بدلاً من المصانع.
ثانيًا: الابتكار الرقمي كقوة دافعة للاقتصاد الحديث
وفقًا لتقرير الابتكار العالمي (Global Innovation Index 2024) الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، فإن الدول التي تستثمر في البنية التحتية الرقمية، وتدعم الابتكار وريادة الأعمال، تحقق معدلات نمو اقتصادي تفوق غيرها بنسبة تصل إلى 25٪.
ويعود ذلك إلى أن الابتكار لا يخلق منتجات جديدة فحسب، بل يخلق أسواقًا جديدة بالكامل.
في الدنمارك،
شكّل الاستثمار الحكومي في الابتكار الرقمي نموذجًا عالميًا يحتذى به، إذ ساهم في خفض تكاليف الخدمات العامة بنحو 20٪ من خلال التحول إلى الأنظمة الرقمية الذكية، وفي الوقت نفسه خلق بيئة خصبة للشركات الناشئة والمشاريع التقنية عبر دعم منظومة الابتكار والبحث العلمي.
وبفضل هذه السياسات، احتلت الدنمارك المرتبة الخامسة عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024 الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، لتؤكد مكانتها كإحدى الدول الرائدة في بناء اقتصاد معرفي مستدام قائم على التكنولوجيا والسيادة الرقمية.
أما الإمارات العربية المتحدة،
فقد حققت قفزة في مؤشرات الابتكار وريادة الأعمال باحتلالها المرتبة 32 عالميًا بفضل مبادرات الاقتصاد الرقمي والتحول الحكومي الذكي، واستراتيجياتها الطموحة في بناء مدن ذكية وخدمات حكومية رقمية بالكامل.
في المقابل، العراق،
مازال يواجه تحديات كبيرة في هذا المجال، إذ جاء في المرتبة 120 عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024، وهو ترتيب لا ينسجم مع إمكاناته البشرية والعلمية والاقتصادية.
وتعود هذه الفجوة إلى ضعف الاستثمار في البحث العلمي، وغياب استراتيجية وطنية للابتكار الرقمي، وتشتت الجهود بين المؤسسات.
ومع ذلك، يمتلك العراق فرصة حقيقية للنهضة الرقمية إذا ما وُضعت سياسة وطنية للابتكار وريادة الأعمال الرقمية ترتبط مباشرة بمشروع التحول الرقمي والسيادة الاقتصادية، بما يعيد بناء المنظومة المعرفية الوطنية على أسس تكنولوجية مستقلة.
ثالثًا: الأثر الاقتصادي لريادة الأعمال الرقمية
تلعب الشركات الناشئة والمشاريع التقنية دورًا متزايد الأهمية في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، من خلال:
- خلق فرص العمل النوعية:
توفر بيئة الابتكار الرقمي وظائف عالية المهارة في مجالات تحليل البيانات، البرمجة، الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، مما يسهم في خفض البطالة بين الشباب. - تحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية:
تجذب الشركات الرقمية رؤوس الأموال الجريئة وصناديق الاستثمار التي تبحث عن مشاريع ذات قيمة مضافة، ما ينعكس على دورة رأس المال في الاقتصاد الوطني. - تعزيز التنافسية الاقتصادية:
يتيح الابتكار الرقمي للشركات تطوير منتجات وخدمات ذات جودة أعلى وتكلفة أقل، مما يعزز قدرتها على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية. - تحسين كفاءة الخدمات العامة:
الحكومات التي تعتمد الحلول الرقمية في التعليم، والصحة، والخدمات البلدية تحقق وفورات مالية ضخمة وتزيد من ثقة المواطنين في الأداء المؤسسي.
البيانات كأصل سيادي في الاقتصاد الرقمي
تُعد البيانات اليوم المورد الاستراتيجي الأكثر تأثيرًا في الاقتصاد العالمي، إذ تجاوزت في قيمتها المادية والوظيفية موارد تقليدية مثل النفط والغاز.
تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2024 يصف البيانات بأنها “النفط الجديد”، لكنها أكثر خطورة، لأنها لا تُستهلك بل تتضاعف قيمتها كلما استُخدمت.
في الاقتصاد السيادي، تُمثل البيانات أساس صنع القرار، ومصدر القوة التنافسية، وركيزة الابتكار الصناعي والخدمي.
ويتحقق الطابع السيادي للبيانات عندما تتوافر فيها أربعة عناصر أساسية:
- الملكية الوطنية للبيانات: أن تكون بيانات المواطنين والمؤسسات العامة تحت سيطرة الدولة القانونية والفنية.
- التحكم المحلي بالبنية التحتية: تخزين البيانات وتشغيلها ضمن مراكز بيانات وطنية لا تخضع لقوانين أجنبية.
- القيمة الاقتصادية التحليلية: تحويل البيانات من مادة خام إلى أصول إنتاجية عبر التحليل والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي.
- الأمن السيبراني السيادي: حماية البيانات من الاستغلال التجاري أو الاستخباراتي الخارجي.
وبذلك، تصبح البيانات أصلًا سياديًا اقتصاديًا يوازي العملة الوطنية في أهميته، لأنها تمكّن الدولة من بناء سياساتها التنموية على أساس معرفي دقيق.
إن الاستثمار في إدارة البيانات الوطنية لا يُعد ترفًا تقنيًا، بل هو ضرورة سيادية تضمن استقلال القرار الاقتصادي وتحمي ثروة المعلومات من التسرب أو الاستغلال.
رابعًا: السياسات الحكومية كبيئة حاضنة للابتكار
لا يمكن ازدهار الابتكار وريادة الأعمال الرقمية دون دعم حكومي ذكي وممنهج.
وتشير دراسات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن الدول التي تمتلك استراتيجيات وطنية للابتكار تحقق نموًا مستدامًا يفوق غيرها على المدى الطويل.
وتتمثل أهم أدوار الحكومات في:
- إرساء بيئة تشريعية مرنة:
إصدار قوانين تحفّز ريادة الأعمال وتحمي الملكية الفكرية وتدعم التجارة الرقمية. - تمويل المشاريع الناشئة:
عبر صناديق رأس المال الجريء الحكومية أو الشراكات مع القطاع الخاص. - تطوير البنية التحتية الرقمية:
من شبكات إنترنت عالية السرعة ومراكز بيانات وطنية وخدمات حوسبة سيادية. - بناء القدرات البشرية:
من خلال التعليم التقني والتدريب في مجالات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتحليل البيانات. - تعزيز الشراكات الدولية:
لتحقيق توازن بين الانفتاح على الاقتصاد العالمي وحماية السيادة الرقمية الوطنية.
خامسًا: نحو اقتصاد سيادي رقمي
إن جوهر الابتكار وريادة الأعمال الرقمية لا يكمن فقط في الإبداع التقني، بل في القدرة على تحويل الابتكار إلى سيادة اقتصادية.فالتحكم في سلاسل القيمة الرقمية، ومصادر البيانات، والبنى التحتية السحابية، هو ما يمنح الدول استقلالها الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي.
إن بناء اقتصاد سيادي رقمي يعني:
- امتلاك شبكات وطنية آمنة.
- حماية البيانات الحساسة داخل حدود الدولة.
- دعم الشركات الناشئة المحلية بدل الاعتماد على المنصات الأجنبية.
- وخلق منظومة تكنولوجية مستقلة تدعم القرار الوطني.
سادسًا: التحديات التي تواجه بيئات الابتكار
رغم التقدم الملحوظ في العراق و بعض الدول العربية، ما تزال بيئات الابتكار تواجه تحديات متشابكة، منها:
- ضعف التمويل المبكر للمشاريع التقنية.
- غياب التشريعات الخاصة بالبيانات والسيادة الرقمية.
- نقص الكفاءات التقنية المتخصصة.
- سيطرة الشركات الأجنبية على البنية التحتية السحابية.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات يمكن أن تتحول إلى فرص عبر تبنّي إستراتيجية وطنية للابتكار ترتبط مباشرة بالأمن القومي والسيادة الاقتصادية.
خاتمة: من الاقتصاد الرقمي إلى الاقتصاد السيادي
إن الابتكار وريادة الأعمال الرقمية ليسا مجرد أدوات اقتصادية، بل هما ركيزتان سياديتان تحددان مكانة الدول في النظام الدولي القادم.فمن يبتكر يملك، ومن يملك التكنولوجيا يفرض شروط اللعبة الاقتصادية والسياسية.ولذلك فإن الاستثمار في بيئة الابتكار الرقمي وريادة الأعمال هو استثمار في استقلال القرار الوطني ومستقبل الأجيال.
المصادر:
- المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) – تقرير المؤشر العالمي للابتكار لعام 2024 (Global Innovation Index 2024).
جنيف: المنظمة العالمية للملكية الفكرية، 2024. - منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) – تقرير آفاق الاقتصاد الرقمي لعام 2024 (Digital Economy Outlook 2024).
باريس: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2024. - مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) – تقرير الاقتصاد الرقمي لعام 2024 (Digital Economy Report 2024).
جنيف: الأمم المتحدة، 2024. - البنك الدولي (World Bank) – دراسات ريادة الأعمال والابتكار الرقمي، 2023 (Digital Entrepreneurship and Innovation Studies, 2023).
واشنطن العاصمة: البنك الدولي، 2023. - المفوضية الأوروبية (European Commission) – مراجعة سياسات الابتكار لعام 2024 (Innovation Policy Review 2024).
بروكسل: المفوضية الأوروبية، 2024.


