آخر المقالات

الاقتصاد السيبراني والسيادة الرقمية: الدرس الدنماركي للعراق

بهذا النهج، حققت الدنمارك سيادة من دون تصنيع، أو ما يمكن تسميته بـ “السيادة من خلال الحوكمة” — دولة لا تملك كل الخوادم، لكنها تملك القوانين التي تُسيّرها.وأثبتت أن السيادة الرقمية ليست حكرًا على الدول الصناعية الكبرى، بل ثمرة ذكاء تشريعي ومؤسساتي.

لم تعد السيادة الرقمية مرادفًا للعزلة التقنية، بل أصبحت فن السيطرة على الانفتاح.فالدولة الحديثة لا تحتاج أن تصنع الخوارزميات، بل أن تملك الحق القانوني في ضبطها.إنها نقلة فكرية من السيادة الصناعية إلى السيادة القانونية من السيطرة على المصنع إلى السيطرة على القرار.وبذلك، تحولت الدنمارك إلى مركز قانوني سيبراني في أوروبا، يُملي شروطه حتى على الشركات العملاقة، ويحوّل الاعتماد التقني إلى استقلال سيادي.وهذا ما تفتقده الدول النامية مثل العراق، التي ما زالت تستهلك التقنية دون أن تُخضعها لقوانينها الوطنية.

أما اليوم، فقد دخل العالم عصرًا جديدًا لا تُقاس فيه القوة بالسلاح أو بالشبكات،بل بقدرة الدولة على فرض سيادتها القانونية على من يملك تلك الشبكات والتقنيات.من يكتب القواعد هو من يملك اللعبة، ومن يضع القانون هو من يحدد شكل المستقبل.لقد تحوّلت القوة من هيمنة مادية إلى هيمنة تشريعية رقمية؛أصبحت الدول المتقدمة تمارس نفوذها عبر القوانين التي تُخضع التكنولوجيا لسلطتها القانونية،وليس عبر أدوات الاختراق أو التفوق التقني فقط.

الدنمارك: القانون أقوى من الكود

لقد أثبتت الدنمارك أن السيادة لا تُقاس بحجم الدولة أو عدد سكانها،بل بقدرتها على جعل القانون أقوى من الكود،والتشريع أوسع من الخوارزمية.فبينما تتنافس القوى الكبرى على صناعة الرقائق والأنظمة الذكية،
اختارت الدنمارك مسارًا مختلفًا بناء سيادة قانونية تتحكم في مسار التقنية من خلال التشريعات الوطنية.
فهي لا تصنع كل ما تستخدمه، لكنها تتحكم قانونيًا في طريقة عمله داخل حدودها.وهذا هو جوهر السيادة الرقمية الحديثة:
أن تمتلك الدولة مفاتيح القرار لا مفاتيح التشغيل،وأن تكون لها الكلمة العليا في تحديد كيف تعمل التكنولوجيا، ولمصلحة من تعمل.لقد بنت الدنمارك قوتها من خلال إدارة الانفتاح بدل الانغلاق،فسمحت بالتعاون مع الشركات الأجنبية، لكنها أخضعتها لقوانينها الوطنية،حتى أصبحت قوة قانونية سيبرانية تملي شروطها على الشركات العملاقة.

العراق: من الدفاع التقني إلى السيادة التشريعية

أما العراق، فحاجته اليوم لا تكمُن في المزيد من السيرفرات أو البرمجيات،بل في إرادة تشريعية رقمية تُحوّل البيانات الوطنية من عبء أمني إلى أصل سيادي اقتصادي.إن بناء السيادة الرقمية يبدأ من وضع قوانين محلية صارمة تُحدّد ملكية البيانات،ومواقع تخزينها، وآليات حمايتها، ومسؤولية إدارتها.فمن دون قانون، يبقى الأمن السيبراني مجرّد دفاع تقني هشّ،ومن دون إرادة سيادية، تبقى البنى التحتية الرقمية ملكًا لغير أصحابها.إن السيادة في القرن الرقمي لا تتحقق بالعتاد، بل بالقرار.والقرار يبدأ من القانون.

  الرسالتي الختامية: من يكتب القواعد يملك العالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *