إعداد: م. مصطفى كامل الشريف
باحث ومستشار في أمن المعلومات والسيادة الرقمية
ملخّص تنفيذي
نحو سيادة رقمية عراقية مستلهمة من تجربة الدنمارك أتناول في هذه المقالة التحول الاستراتيجي في مفهوم القوة الرقمية من المجال العسكري إلى المجال الاقتصادي، وأطرح نموذج الدنمارك بوصفه تجربة متقدمة في بناء السيادة الرقمية عبر القانون والحوكمة لا عبر التصنيع.ونقارن بين التجربة الدنماركية والعراقية لتوضيح كيف يمكن تحويل الاعتماد التقني إلى استقلال قانوني، وجعل البيانات الوطنية أصلًا سياديًا يوازي النفط في قيمته الاستراتيجية.
الفكرة الجوهرية: من يملك القانون يملك القرار، ومن يملك القرار يملك السيادة الرقمية.
المقدمة
خلال السنوات الماضية، انصبّ اهتمامي على دراسة عمليات الطيف الكهرومغناطيسي (EMSO) والحروب السيبرانية والاستخبارات الرقمية، بوصفها التجليات الحديثة لمفهوم القوة في الفضاء غير المرئي، حيث تتقاطع الموجات مع الشيفرات، وتتحول البيانات إلى أدوات للاختراق والسيطرة.
غير أن هذا الفضاء نفسه يشهد اليوم تحوّلًا نوعيًا في جوهر القوة:فالقوة لم تعد تُقاس بمن يملك أدوات الهجوم، بل بمن يملك سلطة التنظيم والحوكمة.لقد انتقل العالم من مرحلة السيطرة بالشيفرة إلى مرحلة السيطرة بالقانون،ومن “الردع السيبراني” إلى الاقتصاد السيبراني السيادي،حيث أصبحت البيانات والذكاء الاصطناعي موارد وطنية تُدار بالتشريع لا بالعتاد.لقد دخلنا عصرًا جديدًا يفرض مفهوم السيادة الرقمية من منطلقٍ آخر؛
فلم تعد تُقاس بعدد الهجمات السيبرانية، بل بقدرة الدولة على إخضاع التكنولوجيا الأجنبية لسلطتها القانونية والاقتصادية،وسنّ التشريعات التي تضمن أن تعمل المنظومات التقنية مهما كان مصدرها وفق المصلحة الوطنية لا وفق من صمّمها.في هذا السياق، تبرز الدنمارك كنموذجٍ لدولة صغيرة المساحة، لكنها عظيمة في إدارة بياناتها وفرض قوانينها على كبريات الشركات التكنولوجية،
في مقابل العراق الذي يمتلك القدرات البشرية والموقع الاستراتيجي، لكنه ما زال يفتقر إلى الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحمي بياناته الوطنية وموارده الرقمية.
ومن هذه المقارنة تنطلق هذه المقالة، محاولةً للإجابة عن سؤالين جوهريين:
- كيف بنت الدنمارك سيادتها عبر القانون والحوكمة الرقمية؟
- وكيف يمكن للعراق أن يحوّل اعتماده التقني إلى استقلال سيادي رقمي عبر التشريعات الوطنية؟
🇩🇰 المحور الأول: الدنمارك – السيادة القانونية بدل السيادة التقنية
رغم أن الدنمارك لا تمتلك مصانع رقاقات أو شركات برمجيات عملاقة مثل الولايات المتحدة أو الصين، فإنها بنت نموذجًا فريدًا من “الاستقلال القانوني داخل الاعتماد التقني”. فهي لا تُغلق حدودها أمام التكنولوجيا الأجنبية، لكنها تُخضعها تمامًا لسلطتها القانونية.كل شركة تعمل في السوق الدنماركية من Microsoft إلى AWS ملزمة بالتوقيع على اتفاقيات امتثال سيادي تضمن:
- بقاء البيانات تحت الولاية القانونية الدنماركية (Jurisdictional Sovereignty).
- تخزين النسخ الأصلية داخل الاتحاد الأوروبي فقط.
- إخضاع أي عملية نقل بيانات خارجية لموافقة وطنية صريحة.
بهذا النهج، حققت الدنمارك سيادة من دون تصنيع، أو ما يمكن تسميته بـ “السيادة من خلال الحوكمة” — دولة لا تملك كل الخوادم، لكنها تملك القوانين التي تُسيّرها.وأثبتت أن السيادة الرقمية ليست حكرًا على الدول الصناعية الكبرى، بل ثمرة ذكاء تشريعي ومؤسساتي.
المحور الثاني: مركز Gefion – ولادة السيادة الحوسبية
في أكتوبر 2024، افتتح الملك فريدريك العاشر برفقة مؤسس شركة NVIDIA، جينسن هوانغ، أول سوبركمبيوتر دنماركي سيادي باسم Gefion، كأحد أقوى الأنظمة الحوسبية في أوروبا الشمالية.
يُدار المشروع من قِبل Danish Centre for AI Innovation (DCAI)، بتمويل من مؤسسة Novo Nordisk وصندوق الاستثمار الدنماركي، بتكلفة تجاوزت 700 مليون كرونة.
يتكوّن Gefion من أكثر من 1,500 وحدة معالجة رسومية (GPU) من طراز NVIDIA H100، ويُستخدم لتدريب النماذج الذكية في مجالات الطب، المناخ، والطاقة النظيفة.
لكن أهميته لا تكمن في القوة التقنية فحسب، بل في الطابع السيادي القانوني له:
كل البيانات التي تُعالَج داخله تبقى خاضعة للقانون الدنماركي، وتُخزّن داخل أراضي الدولة، ما يمنع أي تبعية رقمية لمزودي الخدمات الخارجيين.
بمعنى آخر، Gefion ليس مجرد مركز بيانات، بل منشأة سيادية رقمية مصنع وطني للذكاء، يُدار وفق فلسفة قانونية تُقدّم الحوكمة على العتاد، والسيادة على الأداء.
إنه تجسيد عملي لمقولة: من يملك البنية القانونية يملك مستقبل التقنية، ولو لم يصنعها.
المحور الثالث: فلسفة السيادة الرقمية الحديثة – السلاح الجديد في عصر البيانات
الدنمارك لا تملك كل التكنولوجيا التي تستخدمها، لكنها تملك القوانين التي تُخضعها لسيادتها.
وهذا هو جوهر السيادة الرقمية الحديثة: أن تتحكم في تدفق البيانات دون أن تعزل نفسك عن العالم.لم تعد السيادة الرقمية مرادفًا للعزلة التقنية، بل أصبحت فن السيطرة على الانفتاح.فالدولة الحديثة لا تحتاج أن الدنمارك لا تملك كل التكنولوجيا التي تستخدمها، لكنها تملك القوانين التي تُخضعها لسيادتها.
وهذا هو جوهر السيادة الرقمية الحديثة: أن تتحكم في تدفق البيانات دون أن تعزل نفسك عن العالم.
لم تعد السيادة الرقمية مرادفًا للعزلة التقنية، بل أصبحت فن السيطرة على الانفتاح.فالدولة الحديثة لا تحتاج أن تصنع الخوارزميات، بل أن تملك الحق القانوني في ضبطها.إنها نقلة فكرية من السيادة الصناعية إلى السيادة القانونية من السيطرة على المصنع إلى السيطرة على القرار.وبذلك، تحولت الدنمارك إلى مركز قانوني سيبراني في أوروبا، يُملي شروطه حتى على الشركات العملاقة، ويحوّل الاعتماد التقني إلى استقلال سيادي.وهذا ما تفتقده الدول النامية مثل العراق، التي ما زالت تستهلك التقنية دون أن تُخضعها لقوانينها الوطنية.
الفضل القانوني الأوروبي والدور التنفيذي الدنماركي
حين نحلل التجربة الدنماركية في السيادة الرقمية، لا يمكن فصلها عن الإطار القانوني الأوسع للاتحاد الأوروبي.فالقوانين التي مكّنت كوبنهاغن من إخضاع عمالقة التكنولوجيا من Microsoft إلى Meta لم تصدر من البرلمان الدنماركي وحده،بل جاءت ضمن منظومة تشريعية أوروبية متكاملة.
لقد وضع الاتحاد الأوروبي الأسس الكبرى التي منحت دوله القوة القانونية أمام الشركات العابرة للحدود، ومنها:
- اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) التي منعت نقل البيانات خارج الاتحاد دون ضمانات سيادية.
- قانون الحوكمة الرقمية (Data Governance Act – DGA) الذي نظّم تبادل البيانات الحكومية والخاصة.
- قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (AI Act – 2024) الذي فرض لأول مرة معايير سيادية ملزمة على أنظمة الذكاء الاصطناعي.
لكن التميّز الدنماركي لم يكن في وجود هذه القوانين، بل في طريقة تطبيقها وطنياً.
فالدنمارك فعّلت النص الأوروبي بروح وطنية، فحوّلته من تشريع مشترك إلى أداة سيادة محلية.
لقد أنشأت
- منظومات تخزين بيانات وطنية.
- وكالة مركزية للحوكمة الرقمية.
- مراكز حوسبة وطنية تمولها مؤسسات دنماركية مثل مشروع Gefion الذي تموله مؤسسة Novo Nordisk.
هذه السياسات جعلت كوبنهاغن تمتلك سيادة تنفيذية داخل سيادة تشريعية أوروبية،
أي أنها تستخدم قوة الاتحاد الأوروبي كدرع قانوني، لكنها تمارس من خلاله إرادتها الخاصة.يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي منحها السلاح، لكنها هي من استخدمته بحكمة لبناء استقلالها القانوني والتقني.أما بالنسبة للعراق، فإن الدرس الأهم هو أن بناء السيادة لا يشترط الانغلاق أو القطيعة مع الآخرين،
بل يمكن أن يتحقق من خلال تحالف قانوني خارجي مع تنفيذ سيادي داخلي كما فعلت الدنمارك داخل الاتحاد الأوروبي.
المحور الرابع: الاقتصاد الذكي كوجه جديد للسيادة
أصبحت البيانات الوطنية في التجربة الدنماركية أصلًا ماليًا محميًا بالقانون، وليس مجرد مورد معرفي.
فكل منظومة رقمية محكومة بالولاية القانونية الوطنية تُعيد تدوير عائداتها داخل الاقتصاد المحلي.
هكذا تحول مفهوم “حماية البيانات” إلى أداة مالية تسهم في الناتج المحلي الإجمالي، وتخلق وظائف عالية الدخل في مجالات الحوسبة، والذكاء الاصطناعي، والطاقة الرقمية. السيادة الرقمية هنا لم تعد مسألة “أمن سيبراني” فحسب، بل أصبحت سياسة اقتصادية تحافظ على ثروة الدولة الرقمية من التسرب، وتحوّلها إلى رافعة للنمو الوطني.
🇮🇶 المحور الخامس: العراق – من الاستهلاك التقني إلى السيادة القانونية
يمتلك العراق طاقات بشرية ومؤسسات قوية، لكنه يفتقر إلى الإطار القانوني الذي يحمي بياناته الوطنية.
تُخزَّن معظم بيانات الوزارات والمؤسسات العراقية في خوادم أجنبية (Microsoft 365, Google Cloud, Cloudflare)، دون وضوح قانوني في أماكن المعالجة أو طبيعة الحماية.بهذا الواقع، يصبح الأمن السيبراني العراقي مجرد دفاع تقني هشّ، لا تحكمه سيادة تشريعية.ولكي يقتدي بالعقل الدنماركي، لا يحتاج العراق إلى تصنيع رقاقات، بل إلى تأسيس سيادة قانونية عبر ثلاث خطوات استراتيجية:
- تشريع قانون سيادة البيانات الوطنية:يُلزم كل شركة أجنبية بتخزين البيانات داخل العراق أو في مراكز تخضع للقضاء العراقي.
- إنشاء مركز بيانات وطني سيادي على غرار Gefion:يكون نواةً للذكاء الاصطناعي الحكومي ومخزونًا للبيانات الوطنية.
- تأسيس هيئة وطنية لتكنلوجيا المعلومات تديرحوكمة البيانات:تشرف على تدفق المعلومات داخل وخارج الحدود الرقمية، وتربط بين الأمن السيبراني والاقتصاد الرقمي.
المحور السادس والختامي: من السلاح إلى القانون – ولادة القوة السيادية الجديدة.
في الماضي، كانت القوة في من يملك السلاح المادي؛من يسيطر على الأرض والموارد والممرات المائية كان يفرض إرادته السياسية والاقتصادية.ثم انتقلت القوة إلى من يملك الشبكات من يمدّ الكابلات البحرية، ويُدير الأقمار الصناعية، ويُتحكم بتدفق المعلومات، أصبح يملك الاقتصاد والإعلام والتأثير.
أما اليوم، فقد دخل العالم عصرًا جديدًا لا تُقاس فيه القوة بالسلاح أو بالشبكات،بل بقدرة الدولة على فرض سيادتها القانونية على من يملك تلك الشبكات والتقنيات.من يكتب القواعد هو من يملك اللعبة، ومن يضع القانون هو من يحدد شكل المستقبل.لقد تحوّلت القوة من هيمنة مادية إلى هيمنة تشريعية رقمية؛أصبحت الدول المتقدمة تمارس نفوذها عبر القوانين التي تُخضع التكنولوجيا لسلطتها القانونية،وليس عبر أدوات الاختراق أو التفوق التقني فقط.
الدنمارك: القانون أقوى من الكود
لقد أثبتت الدنمارك أن السيادة لا تُقاس بحجم الدولة أو عدد سكانها،بل بقدرتها على جعل القانون أقوى من الكود،والتشريع أوسع من الخوارزمية.فبينما تتنافس القوى الكبرى على صناعة الرقائق والأنظمة الذكية،
اختارت الدنمارك مسارًا مختلفًا بناء سيادة قانونية تتحكم في مسار التقنية من خلال التشريعات الوطنية.
فهي لا تصنع كل ما تستخدمه، لكنها تتحكم قانونيًا في طريقة عمله داخل حدودها.وهذا هو جوهر السيادة الرقمية الحديثة:
أن تمتلك الدولة مفاتيح القرار لا مفاتيح التشغيل،وأن تكون لها الكلمة العليا في تحديد كيف تعمل التكنولوجيا، ولمصلحة من تعمل.لقد بنت الدنمارك قوتها من خلال إدارة الانفتاح بدل الانغلاق،فسمحت بالتعاون مع الشركات الأجنبية، لكنها أخضعتها لقوانينها الوطنية،حتى أصبحت قوة قانونية سيبرانية تملي شروطها على الشركات العملاقة.
العراق: من الدفاع التقني إلى السيادة التشريعية
أما العراق، فحاجته اليوم لا تكمُن في المزيد من السيرفرات أو البرمجيات،بل في إرادة تشريعية رقمية تُحوّل البيانات الوطنية من عبء أمني إلى أصل سيادي اقتصادي.إن بناء السيادة الرقمية يبدأ من وضع قوانين محلية صارمة تُحدّد ملكية البيانات،ومواقع تخزينها، وآليات حمايتها، ومسؤولية إدارتها.فمن دون قانون، يبقى الأمن السيبراني مجرّد دفاع تقني هشّ،ومن دون إرادة سيادية، تبقى البنى التحتية الرقمية ملكًا لغير أصحابها.إن السيادة في القرن الرقمي لا تتحقق بالعتاد، بل بالقرار.والقرار يبدأ من القانون.
- فالبيانات اليوم هي النفط الجديد،
- والقانون هو أنبوب السيطرة عليه.
- ومن يملك القانون، يملك البيانات،
- ومن يملك البيانات، يملك المستقبل.
الرسالتي الختامية: من يكتب القواعد يملك العالم
لقد انتهى عصر يُقاس فيه النفوذ بالقنابل أو حتى بالكابلات،وبدأ عصر تُقاس فيه القوة بمن يضع القواعد التي تُدار بها الخوارزميات.هي حرب من نوع جديد، حرب تشريعية صامتة تدور في البرلمانات وغرف التنظيم لا في ميادين القتال.ولذلك، فإن الطريق إلى السيادة الرقمية العراقية لا يمر عبر استيراد المزيد من لأنظمة الأجنبية،بل عبر كتابة دستور رقمي وطني يجعل البيانات والذكاء الاصطناعي والبنى التحتية الرقميةأصولًا خاضعة للإرادة الوطنية لا للشركات العابرة للحدود.عندها فقط، يمكن للعراق أن يدخل نادي الدول ذات السيادة القانونية الرقمية،ويتحوّل من مستهلك للتقنيات إلى صانعٍ لقراراتها،ومن تابعٍ للمنظومات الأجنبية إلى مشرّعٍ لمستقبله الرقمي.
المصادر:
- المنتدى الاقتصادي العالمي (2023) – مستقبل الابتكار والسيادة الرقمية.
- إنفيديا (2024) – الحاسوب الفائق الدنماركي “غيفيون“.
- مؤسسة نوفو نورديسك (2024) – مشروع المركز الوطني للذكاء الاصطناعي.
- مجلة Datacenter Dynamics (2024) – افتتاح مشروع غيفيون السيادي.
- المفوضية الأوروبية (2016) – اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR.
- وزارة الرقمنة الدنماركية (2023) – الاستراتيجية الرقمية الوطنية.
- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2024) – تقرير آفاق الاقتصاد الرقمي.
- مؤسسة بروكينغز (2023) – صعود السيادة الرقمية.


