✍️ بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
– مستشار في أمن المعلومات والشبكات
حلقة (3 – 4)
المقدمة
في مشهد التجسس الحديث، لم يعد جمع المعلومات مقتصرًا على المراقبة الرقمية عبر الشبكات والكوابل البحرية، كما هو الحال في برامج مثل PRISM أو Tempora. بل ظهر نمط أكثر تقدمًا وخطورة، يقوم على التسلل الفعلي إلى عمق البيئات المستهدفة وزرع أجهزة تنصت في مواقع حساسة، دون الاعتماد على البنية التحتية العامة للاتصالات.
تُعد هذه العمليات من مهام وحدات استخباراتية ميدانية شديدة السرّية، تعمل خارج نطاق الرادار الإعلامي والمؤسساتي. ومن أبرز هذه الوحدات وأكثرها غموضًا، “وحدة التجميع الخاصة” (Special Collection Service – SCS)، التي ستكون محور هذا المقال لهذه الحلقة من حيث النشأة، والمهام، والتقنيات، والتأثير العالمي.
التاريخ والخلفية
تأسست وحدة التجميع الخاصة (SCS) في عام 1978، في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كمشروع مشترك بين وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA). جاءت هذه الوحدة استجابة لحاجة متزايدة لاختراق أعماق البيئات المعادية، بعد أن أصبحت وسائل المراقبة التقليدية عاجزة عن الوصول إلى الاتصالات المؤمنة والمشفرة.
لم يكن الهدف من SCS مجرد رصد إشارات أو مراقبة موجات راديوية، بل تنفيذ عمليات اختراق مادي داخل مقارّ حساسة مثل السفارات، وغرف الاجتماعات، والمرافق الدبلوماسية، بل وحتى الحمامات الخاصة بكبار المسؤولين.
مع تطور وسائل التشفير في تسعينيات القرن العشرين، أصبحت عمليات التنصت السلبي عاجزة عن فك الكثير من الشيفرات المتقدمة، فتبنّت الولايات المتحدة مبدأ تجاوز التشفير إلى المصدر، عبر زرع أجهزة تنصت مباشرة في أماكن إنتاج المعلومات.
توسّعت مهام SCS حينها لتشمل عمليات جريئة على مستوى العالم، مدعومة بتقنيات متطورة وكوادر مدرّبة على العمل تحت غطاء دبلوماسي أو عسكري، مما جعلها تُعرف داخل أروقة الاستخبارات الأمريكية بـ”اليد الخفية” في مجال التنصّت الإلكتروني والسيطرة المعلوماتية.
المهام، الانتشار، والتأثير السياسي
تُكلَّف وحدة التجميع الخاصة (SCS) بمهام نوعية تُصنّف ضمن أعلى درجات السرّية في منظومة الاستخبارات الأمريكية. تشمل عملياتها:
- زرع أجهزة التنصت الميداني داخل المباني الدبلوماسية والعسكرية الحساسة.
- اختراق الأنظمة الإلكترونية دون الاعتماد على الشبكات العامة.
- بناء نقاط استماع سرّية ضمن السفارات الأمريكية حول العالم.
- مرافقة البعثات العسكرية في مناطق النزاع لإعداد بنية استخبارية فورية.
تنتشر فرق SCS في أكثر من 80 دولة، وغالبًا ما تعمل تحت غطاء موظفين دبلوماسيين أو ملحقين تقنيين في السفارات، ما يمنحهم الحصانة والحرية في التحرك. وقد ورد ذكر نشاطاتهم في عدة فضائح عالمية، منها تسريبات إدوارد سنودن، التي كشفت عن تجسّسهم على رؤساء دول، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومسؤولين في الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي.
هذا النمط من التجسس لا يستهدف فقط الخصوم التقليديين، بل يشمل حتى الحلفاء المقربين، في إطار ما يُعرف بـ”الاستخبارات الاستراتيجية الشاملة”، حيث لا يُستثنى أحد من المراقبة، إذا تعلّق الأمر بحماية المصالح الأمريكية العليا.
إن النفوذ المتزايد لـ SCS يعكس تحوّلًا جوهريًا في فلسفة التجسس الأمريكي من الاستخبار إلى الهندسة الميدانية للبيئة المعلوماتية، وهو ما يثير تساؤلات خطيرة حول سيادة الدول، وأمنها السيبراني، واستقلال قرارها السياسي.
النشاطات الميدانية
الحرب الباردة
في مشهد يبدو مأخوذًا من رواية تجسس، قامت فرق SCS خلال الحرب الباردة بزرع أجهزة تنصت في الحمامات التي تقع على عتبات نوافذ السفارة السوفييتية في واشنطن. لم يكن ذلك تصرفًا ارتجاليًا، بل جزءًا من خطة دقيقة لاستغلال أدق الزوايا لجمع المعلومات.
الاختراق الداخلي
لكن حتى هذه الشعبة الخارقة لم تكن محصنة من الاختراق. ففي التسعينيات، قام روبرت هانسن، العميل الشهير في مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، بتسريب معلومات حساسة عن عمليات الشعبة إلى موسكو. لم تكن حتى وكالات الاستخبارات الأخرى في الحكومة على دراية بتفاصيل الشعبة، لدرجة أن FBI وصف البرنامج بعد اعتقال هانسن بعبارات غامضة مثل: “برنامج عالي التكلفة والقيمة والأهمية للحكومة الأمريكية”.
أفغانستان: تتبع بن لادن
في عام 1999، وبعد تفجيرات السفارات الأمريكية في أفريقيا عام 1998، قررت إدارة كلينتون اغتيال أسامة بن لادن. تسللت فرق SCS إلى داخل أفغانستان، وزرعت أجهزة تنصت دقيقة داخل أجهزة الراديو التكتيكية التي كانت تُستخدم في معسكرات القاعدة. كانت العملية مخاطرة جسيمة، لكنها تمّت دون أن يشعر أحد.
الصين: الرئيس تحت المجهر
في عام 2001، وردت تقارير عن عملية مثيرة للجدل شاركت فيها شعبة المجموعات الخاصة. إذ تم زرع 27 جهاز تنصت يمكن التحكم بها عبر الأقمار الصناعية في طائرة بوينغ 767-300ER كانت مخصصة للاستخدام الرسمي من قبل الرئيس الصيني جيانغ زيمين. ولحسن حظ القيادة الصينية، تم اكتشاف الأجهزة قبل تشغيلها.
العراق: ما قبل وما بعد الغزو
قبل غزو العراق عام 2003، كانت SCS تُوصف بأنها “المحرك الرئيسي” لعمليات المراقبة الإلكترونية في البلاد. قام عملاؤها ببناء هوائيات موزعة في الأرياف لاعتراض الموجات الميكروية العراقية، وهي إشارات كانت تصمم لتنتقل من قمة تل إلى أخرى، بطريقة يصعب التقاطها بالوسائل الجوية أو الفضائية.وفي عام 1998، جنّدت الولايات المتحدة عميلًا أستراليًا لصالح الشعبة وأرسلته إلى العراق. لاحقًا كتب تقارير تُظهر قلقه من حجم البيانات الهائل الذي كان يجمع دون تحليل أو تقييم واضح. وأكد أن العملية الاستخباراتية لم تكن منسجمة مع طبيعة تفويض لجنة الأمم المتحدة الخاصة.وبعد الغزو، تولّت الشعبة مهمة تعقّب صدام حسين. زُرعت أجهزة تنصت متطورة في أماكن يُحتمل تواجده فيها، وتم تحليل الاتصالات من قبل خبراء في الصوتيات.
الحرب على الإرهاب
بعد هجمات 11 سبتمبر، تحولت الحرب على الإرهاب إلى ساحة واسعة لتدخلات SCS. أنشأت الشعبة مراكز تنصت في عواصم الشرق الأوسط، وراقبت تحركات أعضاء تنظيم القاعدة والشخصيات المرتبطة به. في خوست، أفغانستان، راقب الفريق معسكرات تدريب القاعدة منذ عام 1999.
ولعل أبرز عمليات الشعبة كانت في باكستان، عندما حدّدت الولايات المتحدة موقع المجمع الذي يُعتقد أن أسامة بن لادن يعيش فيه في أبوت آباد. استأجرت وكالة الاستخبارات المركزية شقة تبعد ميلًا عن المجمع، وزرعت فرق SCS معدات متطورة توجه أشعة ليزر إلى نوافذ المبنى. ومن خلال تحليل الاهتزازات الطفيفة على الزجاج، تمكنوا من حساب عدد الأشخاص داخل المبنى وتأكدوا من وجود شخص لا يغادره أبدًا. في 2 مايو 2011، انتهت المهمة بمقتل بن لادن في غارة أمريكية.
الأدوات والتقنيات
تعتمد شعبة المجموعات الخاصة (SCS) على تقنيات عالية السرية تشمل:
- أجهزة تنصت ميكروية مزروعة داخل الجدران والأثاث.
- ميكروفونات ليزرية تلتقط الذبذبات الصوتية من الزجاج.
- أجهزة تُدار عن بُعد عبر الأقمار الصناعية.
- أنظمة تشويش وتحكم عن بُعد تُستخدم لتفعيل الأجهزة عند الحاجة.
التنظيم والموقع
يقع المقر الرئيسي للشعبة في منطقة “بيلتسفيل” (Beltsville) في ولاية ماريلاند، ضمن منشأة شديدة التحصين تُعرف باسم “Beltsville Communications Annex”. ويتناوب على قيادة الشعبة مسؤولون من الـNSA والـCIA. كما تنشط فرقها في أكثر من 80 بعثة دبلوماسية أمريكية حول العالم.
STATEROOM: عندما تتحوّل السفارات إلى أعشاش تجسس
في سياق توسع التجسس الأمريكي-الغربي عالميًا، برز برنامج شديد السرية يُعرف باسم STATEROOM، يُدار من قبل تحالف العيون الخمس (Five Eyes)، ويقوم على زرع محطات تنصت داخل السفارات والقنصليات الغربية حول العالم.
تُستخدم هذه المواقع الدبلوماسية كمنصات لاعتراض الاتصالات اللاسلكية، المكالمات، إشارات الرادار، واتصالات الإنترنت المحلي، مستفيدة من تغطية السفارة السياسية وحصانتها القانونية. وقد وثّقت تسريبات إدوارد سنودن وجود محطات STATEROOM في أكثر من عشرين مدينة، بينها برلين، باريس، أنقرة، بكين، وبانكوك.
غالبًا ما تُدمج هذه المحطات مع وحدات SCS، لتكوين شبكات تجسس ميدانية صامتة في قلب العواصم العالمية. وهكذا، تتحول البعثات الدبلوماسية من أدوات حوار إلى أعشاش تجسس متقدمة، يُستخرج منها ما لا تستطيع الأقمار الصناعية أو الكابلات البحرية التقاطه.
نتائج وتداعيات – تسريبات سنودن
لم يكن العالم ليدرك حجم تغلغل شعبة المجموعات الخاصة لولا تسريبات إدوارد سنودن عام 2013، التي كشفت عن واحدة من أضخم شبكات المراقبة في التاريخ.
أماطت الوثائق المسربة اللثام عن برنامج عالمي يُعرف باسم STATEROOM، كانت SCS أحد أعمدته الرئيسية، تنشط في أكثر من 80 بعثة أمريكية حول العالم، في تعاون وثيق بين أدوات الـNSA وخطط الـCIA.
ومن أبرز ما كشفته التسريبات أن الولايات المتحدة تجسست على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسنوات، مما أثار أزمة دبلوماسية، وأوضح أن أنشطة SCS لم تقتصر على الخصوم، بل شملت حتى حلفاء مقربين.
الخاتمة
قصة شعبة المجموعات الخاصة ليست مجرد سرد لتاريخ وحدة تجسس، بل هي شهادة على مرحلة استخباراتية كانت تكتب فصولها من خلف الجدران، وأحيانًا من داخلها. في زمن التشفير والتقنيات فائقة الحماية، أثبتت الشعبة أن الطريق إلى المعلومة ليس دائمًا عبر الأقمار الصناعية، بل أحيانًا عبر ثقب صغير في جدار سفارة… أو اهتزاز بسيط في زجاج نافذة.
الى اللقاء في الحلقة الرابعة و الأخيرة
( عمليات التجسس من خلال أختراق شركات التشفير )