بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
مستشار في أمن المعلومات والشبكات
المقدمة: حين سقطت القاذفات من الداخل
في فجرٍ رمادي صامت، اهتزّت الأرض تحت أقدام جنرالات سلاح الجو الروسي. لم تُرصد طائرات على الرادار، ولم تتسلل أسراب عبر الحدود.بل كانت الضربة من الداخل… من أعماق المستودعات، من أحشاء شاحنات روسية، ومن أشياء لم يكن يُحسب لها حساب. ليست عملية استخباراتية فقط، ولا غارة عسكرية تقليدية، بل زلزالٌ في مفاهيم الحرب نفسها.أوكرانيا لم تقصف، بل اخترقت. لم ترسل طائرات حربية، بل أيقظت أسرابًا كانت نائمة داخل أراضي العدو. هذه ليست قصة عن انفجار… بل عن اختراق هيبة الدولة عبر خيوط ذكية منسوجة كخيوط العنكبوت.
هكذا بدأت (عملية شبكة العنكبوت) ضربة هجينة قلبت موازين القوة، وزرعت الشك في قلب كل قاعدة عسكرية روسية.
لماذا هذه العملية لحظة تحوّل؟
من وجهة نظري لأنها درست العدو رقمياً، وفككت دفاعاته لوجستياً، واخترقت سيادته بتقنية زهيدة الثمن وعقل حاد. ولأنها فتحت الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الحروب حيث الطائرة لا تحتاج مدرجًا… والعدو قد يكون وضع أداة الحرب مشفرة في صندوق خشبي.
ما هي الحرب الهجينة؟ ولماذا تغيّر قواعد اللعبة؟
قبل الخوض في تفاصيل الموضوع أريد أن أقدم نبذة عن معنى الحرب الهجينة. تعتبر الحرب الهجينة نمط جديد من الصراع يجمع بين الأدوات العسكرية التقليدية والوسائل غير النظامية والتقنية، لتشكيل ضربة مركبة يصعب التنبؤ بها أو التصدي لها.
في هذا النوع من الحروب، العدو لا يرتدي زيًا رسميًا، والهجوم لا يأتي من السماء فقط، بل قد يأتي من تطبيق هاتف، أو طائرة بدون طيار، أو حتى شحنة بريدية ملوثة بالكود البرمجي.
أبرز مكونات الحرب الهجينة:
المكون | الوصف |
عسكري تقليدي | استخدام الأسلحة أو المتفجرات |
سيبراني | اختراق أنظمة العدو، تعطيل الاتصالات، بث الفوضى |
اختراق سلاسل التوريد | تهريب أدوات هجومية داخل مواد مدنية |
حرب معلومات | التضليل الإعلامي، زرع الشكوك في الرأي العام |
ذكاء اصطناعي | التحكم الذكي بالهجمات عن بُعد أو اتخاذ قرارات ذاتية عبر الأنظمة |
عملية سرية معقدة استغرقت أكثر من 18 شهرًا من التخطيط، استهدفت قواعد جوية روسية استراتيجية باستخدام طائرات مسيّرة صغيرة، تم تهريبها إلى داخل الأراضي الروسية داخل حاويات خشبية مموّهة.
وعند لحظة الصفر، تم تفعيل المسيّرات عن بُعد، لتنطلق نحو أهدافها وتحقق نتائج مذهلة، منها:
- تدمير أكثر من 41 طائرة حربية
- بينها قاذفات نووية من طراز Tu-95 وTu-22
- خسائر مادية تجاوزت 7 مليارات دولار
- شلّ 34% من القدرة الهجومية طويلة المدى لسلاح الجو الروسي
كيف نُفّذت؟ ولماذا تُعدّ مختلفة؟
ليست مجرد ضربة عسكرية تقليدية، بل تجسيد حي لمفهوم الحرب الهجينة الحديثة، حيث امتزجت أربعة أبعاد متداخلة:
البعد | التوضيح |
تقليدي | تهريب طائرات مفخخة إلى عمق أراضي العدو |
ذكاء اصطناعي | توجيه ذاتي محتمل للطائرات عبر خوارزميات سلوك جماعي |
اختراق لوجستي | استغلال سلاسل التوريد (النقل)الروسية في إدخال المسيّرات |
هجوم سيبراني | تنسيق وتشويش عن بُعد، وتشفير اتصالات التحكم |
تحليل العملية حسب قواعد الحرب الهجينة:
أولاً: هل هي “اختراق سلسلة توريد”؟
الإجابة: لا بشكل مباشر، ولكن لها صلة غير مباشرة.
- لم تُنفّذ العملية عبر اختراق شركات توريد برمجيات أو معدات روسية، كما يحدث في هجمات سلسلة التوريد الكلاسيكية (مثل SolarWinds).
- لكنهااستغلت سلاسل النقل والخدمات الروسية بتهريب طائرات بدون طيار مخفية داخل شاحنات أو حاويات “مدنية”، مما يدل على استخدام مكونات لوجستية داخل سلسلة الإمداد الروسية دون علمها.
🔹 النتيجة: ليست اختراقًا تقنيًا لسلسلة التوريد، لكن بها عنصر استغلال لوجستي لسلاسل الإمداد.
ثانيًا: هل تدخل ضمن “الحرب السيبرانية”؟
الإجابة: جزئيًا نعم.
- لا توجد أدلة حتى الآن على أن الطائرات المسيّرة كانت موجهة عبر شبكات اختراق سيبراني (مثل شلّ أنظمة دفاع روسية عن بُعد).
- لكن هناك احتمال كبير أن عملية فتح الحاويات وتشغيل الطائرات عن بُعد اعتمدت على اتصال آمن أو تشويش إلكتروني على أنظمة الرادار الروسي.
🔹 النتيجة: تحتوي على عناصر سيبرانية تكتيكية لكنها ليست عملية قرصنة رقمية بحتة.
ثالثًا: هل استخدموا “الذكاء الاصطناعي”؟
الإجابة: محتمل جدًا.
- لم يُذكر رسميًا استخدام AI في التوجيه، لكن:
- تشغيل أسراب الطائرات بشكل متزامن ومعقد يوحي باستخدام خوارزميات تنظيم الطيران.
- استخدام أنظمة رؤية أوتوماتيكية أو تحديد أهداف محتمل.
🔹 النتيجة: عنصر الذكاء الاصطناعي مرجّح تقنيًا، حتى لو لم يُعلن رسميًا.
رابعًا: هل هي “عملية تقليدية”؟
الإجابة: نعم، وبشكل واضح.
- التخطيط، التهريب، التمويه، والتفجير باستخدام طائرات داخل الأراضي الروسية يشبه أسلوب عمليات الاستخبارات التقليدية.
- يشبه أسلوب المخابرات الإسرائيلية (الموساد) أو CIA في زرع معدات مدمّرة مسبقًا خلف خطوط العدو.
🔹 النتيجة: عملية ميدانية عالية التخطيط، بمكونات تقليدية واضحة.
الخلاصة: عملية “هجينة” ومعقّدة Hybrid Operation
تصنّف عملية شبكة العنكبوت كـضربة هجينة متعددة الأبعاد
تعتمد على التمويه الميداني + التنسيق السيبراني + أدوات ذكية + اختراق لوجستي.
لماذا تُعد ضربة ذكية جداً؟
- من دون خسائر بشرية أوكرانية
- نتائج استراتيجية بأدوات بسيطة ومنخفضة التكلفة
- شلّ قدرات استراتيجية كبرى بضربة واحدة
- إرباك سلاح الجو الروسي لعدة أشهر
إنها درس عميق في المرونة التقنية، والتخطيط غير المتناظر، والضرب من حيث لا يتوقع الخصم.
الرد الروسي المحتمل: بين السايبر والنار
بعد الضربة المهينة التي تلقاها سلاح الجو الروسي في عقر داره، يُتوقّع أن يكون الرد من موسكو مركّبًا ومتعدد الأبعاد، على غرار طبيعة الهجوم نفسه.
في أعتقادي ومن متابعتي للأسلوب الروسي في الرد على الهجمات السابقة من المرجّح أن تبدأ روسيا بـتصعيد سيبراني مكثّف ضد البنية التحتية الأوكرانية، يستهدف شبكات الكهرباء، والاتصالات، والقيادة العسكرية، إضافة إلى محاولات اختراق شبكات الدعم الغربية مثل ستارلينك و نظام نيتو للقيادة الرقمية.
في الوقت نفسه، قد تلجأ موسكو إلى ضربات انتقامية مركزة على مواقع تصنيع أو تشغيل الطائرات المسيّرة داخل أوكرانيا، وربما تشمل هذه الضربات منشآت قريبة من الحدود مع دول الناتو، ما قد يفتح باب التوتر الإقليمي.
كما أن الرد قد يمتد إلى حملات تضليل إعلامية واستخبارية، عبر اتهام جهات خارجية مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الاتحاد الأوربي بالمشاركة في التخطيط للعملية، لتبرير أي تصعيد دبلوماسي أو عسكري لاحق.
وأخيرًا، من المرجّح أن تسارع روسيا إلى تطوير قدراتها في اكتشاف الطائرات الصغيرة والمفخخة عبر أنظمة تشويش حديثة، وتوسيع أنظمة الدفاع الجوي القصير المدى داخل العمق الروسي، ما يعني بداية سباق جديد في مضمار مكافحة الدرون.
ما الذي يمكن أن يتعلمه الجيش العراقي من هذه العملية؟
في عالم تتطور فيه أدوات الحرب يوميًا، لم تعد الجيوش التقليدية قادرة على مواجهة التهديدات غير المتناظرة وحدها. لقد أثبتت عملية “شبكة العنكبوت” في العمق الروسي أن التفوق في المعركة لا يُقاس بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بقدرة الدولة على توظيف الذكاء، والتحكم بالتقنية، وتحويل المفاجأة إلى سلاح.
الرسالة إلى قيادة الجيش العراقي واضحة:
الأمن الوطني اليوم لم يعد يُصان بالسلاح فقط، بل بالسيطرة على الفضاء الرقمي، وتأمين البنية التحتية، وبناء منظومة متكاملة من الكفاءات التقنية والقدرات الذاتية في الحرب السيبرانية والطائرات المسيّرة والذكاء الاصطناعي.
توصيات استراتيجية وتنفيذية للجيش العراقي:
- إنشاء مركز وطني مستقل للقيادة السيبرانية، يعمل بتناغم مع منظومة الدفاع الجوي والاستخبارات العسكرية، ويملك صلاحيات تنفيذية لمواجهة التهديدات الرقمية.
- تطوير وحدات مسيّرة محلية بالتعاون مع الجامعات ومراكز البحث العراقية، والاستفادة من التجارب العالمية، لا سيما في أوكرانيا، ودمجها مع منظومات الاستشعار والتحليل الذكي.
- دمج الذكاء الاصطناعي في إدارة المعارك والتدريب العسكري، عبر أنظمة تحليل فوري للتهديدات، ومحاكاة للسيناريوهات القتالية، واتخاذ قرارات تكتيكية مستندة إلى البيانات.
- اعتماد الأمن الاستباقي في سلاسل التوريد العسكرية والتقنية، عبر مراقبة واستقصاء المصادر والمكونات، وكشف أي شيفرة أو بوابة خلفية قد تُزرع في العتاد أو البرمجيات.
- بناء شراكات تقنية استراتيجية مع دول متقدمة في هذا المجال مثل تركيا، كوريا الجنوبية، وبعض دول أوروبا الشرقية، لتبادل الخبرات وتطوير التصنيع المحلي.
- أضافة مناهج حديثة للأكاديمية العسكرية .
من يقود الشيفرة، يقود المستقبل
الجيش العراقي مطالب اليوم بأن يعيد تعريف نفسه، لا كقوة تقليدية فقط، بل كمنظومة ذكية تستبق التهديدات قبل وقوعها، وتبني قوتها على أساس العلم والتحالفات الذكية.
نصائح جوهرية موجهة للقيادة العسكرية:
- اعتمدوا على العقول قبل العتاد، فالمعركة القادمة تُحسم بالشفرة لا بالصراخ.
- لا تستهينوا بأي سطر برمجي يُزرع في نظام أو شحنة، فقد يُعطل جيشًا بأكمله.
- قوّوا جبهة الداخل السيبراني، فهي اليوم خط الدفاع الأول والأخير.
- لا تؤجلوا الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والدرون، فالغد ملك لمن يكتبه برمجيًا اليوم.
العراق بحاجة إلى عقيدة أمنية جديدة، عقيدة لا تخشى التغيير، بل تقوده. فالحروب المقبلة لن تُخاض بالمدافع فقط، بل ستُحسم بالمعرفة، والكود، والتحكم في المفاجأة.
اللهم أحفظ العراق وشعيه من كل سوء