نحو سيادة رقمية عراقية تبدأ من المؤشرات
بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
مستشار في أمن المعلومات والشبكات
في العصر الرقمي، لم تعد الدول تُقاس فقط بقوة جيوشها أو مواردها الطبيعية، بل أصبحت قدرتها على حماية فضائها السيبراني، وتقديم خدماتها عبر الحكومة الرقمية، وتوظيف التكنولوجيا في الاقتصاد والإدارة، مؤشرات أساسية تعكس هيبة الدولة وفاعلية مؤسساتها. وفي هذا السياق، تمثل المؤشرات الدولية المعنية بالأمن السيبراني والتحول الرقمي مرآة صادقة لواقع العراق الرقمي، تكشف النقاط المضيئة، وتسلط الضوء على مناطق الخلل والقصور.
تشير بيانات عام 2024 إلى أن العراق ما زال متأخرًا عالميًا في معظم مؤشرات التحول الرقمي والأمن السيبراني، وهو ما لا يليق بتاريخه، ولا يواكب إمكانياته البشرية، ولا يتسق مع طموحات شبابه. فبينما تُحقّق دول مثل السعودية والإمارات ومصر قفزات نوعية، يُسجل العراق ترتيبات متأخرة ودرجات متدنية تعكس غياب رؤية استراتيجية متكاملة، وافتقارًا للتنفيذ المؤسسي الفعّال.
من هنا تنبع أهمية هذه الدراسة التي تسعى إلى تفكيك هذه المؤشرات الدولية وتفسيرها بلغة مفهومة لصنّاع القرار، مع تقديم تحليل مقارن يُبرز الفجوات ويوجه توصيات عملية لبناء عراق رقمي آمن ومتطور.

أولًا: المؤشر العالمي للأمن السيبراني
(Global Cybersecurity Index – GCI) 2024
ما هو؟
هو مؤشر يقيس مدى التزام الدول بحماية الفضاء السيبراني من الهجمات والاختراقات.
- الجهة الصادرة: الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)
- الترتيب العالمي للعراق: 127 من أصل 193 دولة
- الدرجة: 53.07 من 100
- الفئة: المستوى الرابع (Tier 4) من أصل 5
ماذا يقيس؟
يقيس أداء الدولة في خمسة مجالات رئيسية:
- الإطار القانوني قوانين الجرائم السيبرانية .
- الإجراءات الفنية مثل إنشاء مراكز الاستجابة للطوارئ CERT .
- القدرات التنظيمية هيئات الأمن السيبراني .
- بناء القدرات التعليم والتدريب .
- التعاون الدولي الاتفاقيات مع الدول والمنظمات .
لماذا يجب أن يهم السياسيين؟
- يعكس مدى حماية بيانات المواطنين والبنية التحتية.
- الدول ذات التصنيف العالي تُعتبر أكثر جاذبية للاستثمار الرقمي.
- يساعد في وضع سياسات وطنية فعّالة للأمن الرقمي.
أمثلة:
- تصدرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المؤشر في آخر الإصدارات.
- الدول العربية الرائدة مثل السعودية ومصر شهدت قفزات كبيرة فيه.
يشير تصنيف العراق ضمن المستوى الرابع إلى ضعف الالتزام الوطني في هذه المحاور، مع غياب واضح للتشريعات المتقدمة، والمؤسسات التنفيذية السيبرانية مثل فرق الاستجابة للحوادث (CSIRT)، والاستراتيجيات الوطنية المعلنة.
المصدر الرسمي:
Global Cybersecurity Index 2024 – ITU
مقال سابق لي
وقفة عند تصنيف العراق في المؤشر العالمي للأمن السيبراني. أضغط هنا
ثانيًا: مؤشر تطور الحكومة الإلكترونية
(E-Government Development Index – EGDI) 2024
- الجهة الصادرة: إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة (UNDESA)
- الترتيب العالمي للعراق: 148 من أصل 193 دولة
- الدرجة: 0.46 من 1.0
ما هو؟
هو مؤشر تصدره الأمم المتحدة لقياس مستوى تطور الخدمات الحكومية الرقمية في كل دولة.
ماذا يقيس؟
يركز على ثلاثة أبعاد:
- الخدمات الإلكترونية (توفر الخدمات الحكومية على الإنترنت).
- البنية التحتية الرقمية (توفر الإنترنت، الكهرباء، الأجهزة).
- رأس المال البشري (مستوى التعليم والمهارات الرقمية في الدولة).
لماذا يجب أن يهم السياسيين؟
- يعكس كفاءة مؤسسات الدولة في خدمة المواطن بسرعة وشفافية.
- الدول ذات التصنيف العالي يُنظر إليها على أنها حديثة ومتقدمة إداريًا.
- يساعد في تقييم التحول الرقمي للوزارات.
مثال:
- الدنمارك وكوريا الجنوبية تتصدران المؤشر.
- البلدان التي تستثمر في الحكومة الإلكترونية تحسّن ترتيبها بوضوح.
الترتيب المتأخر للعراق يكشف عن فجوة كبيرة في توفير الخدمات الحكومية عبر الإنترنت، وضعف في البنية التحتية الرقمية، وقصور في التأهيل البشري التقني داخل القطاع الحكومي.
المصدر الرسمي:
UN E-Government Survey 2024 – United Nations
مقال سابق لي
بسبب غياب الرؤية و الكفاءةالرقمية: العراق قريباً خارج مسار التحول الإلكتروني عالميًا أضغط هنا
ثالثًا: مؤشر الأمن السيبراني الوطني
2024/ (National Cyber Security Index – NCSI) 2023
- الجهة الصادرة: الأكاديمية الإستونية للحكومة الإلكترونية (e-Governance Academy – Estonia)
- الترتيب العالمي للعراق: 85 من أصل 160 دولة
- الدرجة: 10.00 من 100
يركز هذا المؤشر على الإجراءات العملية والتنفيذية في الأمن السيبراني، مثل:
- وجود استراتيجية وطنية للأمن السيبراني
- حماية البنية التحتية الحيوية
- إدارة الحوادث الرقمية
- التعليم والتدريب الأمني
الدرجة المتدنية للعراق تعكس غياب تطبيق حقيقي للسياسات أو الإجراءات الوقائية على مستوى الدولة، مما يجعله عرضة للتهديدات السيبرانية.
المصدر الرسمي:
National Cyber Security Index – 2024
رابعًا: مؤشر جاهزية الشبكات
(Network Readiness Index – NRI) 2024
ما هو؟
مؤشر دولي تصدره مؤسسة Portulans Institute (سابقًا من المنتدى الاقتصادي العالمي)، يقيس مدى استعداد الدولة للاستفادة من التكنولوجيا الرقمية.
لماذا يجب أن يهم السياسيين؟
- يعكس الجاهزية الاقتصادية للاستثمار الرقمي.
- يدعم جهود الدولة فيالتحول الرقمي والتعليم والتوظيف.
- الدول ذات الترتيب العالي تستفيد أكثر منالثورة الصناعية الرابعة.
معلومات
- الجهة الصادرة: مؤسسة Portulans Institute
- الترتيب العالمي للعراق: غير مصنّف (N/A)
- الحالة: خارج الترتيب العالمي
تحليل المؤشر:
يعتمد هذا المؤشر على أربعة محاور رئيسية:
- التكنولوجيا: جودة وتوفر البنية التحتية الرقمية مثل شبكات الاتصالات والإنترنت.
- الأفراد: القدرات الرقمية لدى الأفراد والمؤسسات، والتعليم التقني.
- الحوكمة: السياسات الرقمية، والتشريعات الخاصة بالتحول الرقمي، وأمن المعلومات.
- الأثر: مساهمة التكنولوجيا في الابتكار، والنمو الاقتصادي، وتحسين جودة الحياة.
يشير عدم تصنيف العراق ضمن مؤشر NRI إلى قصور مؤسسي في جمع البيانات الرقمية الوطنية، وغياب التعاون مع الجهات الدولية المسؤولة عن قياس جاهزية الشبكات. هذا يُعد مؤشرًا سلبيًا يُظهر نقصًا في الرؤية الاستراتيجية للتحول الرقمي، وعدم وجود بنية مؤسسية قادرة على تمثيل الواقع الرقمي للعراق في المؤشرات العالمية.
المصدر الرسمي:
The Network Readiness Index 2024 – Portulans Institute
التحليل المقارن للمؤشرات الأربعة
المؤشر | الدرجة | الترتيب العالمي | الوضع الحالي |
GCI – ITU (2024) | 53.07/100 | 127/193 | التزامات جزئية في المجال السيبراني |
EGDI – UNDESA (2024) | 0.46/1 | 148/193 | ضعف رقمنة الخدمات الحكومية |
NCSI – EGA (2023) | 10.00/100 | 85/160 | غياب تنفيذ استراتيجيات الأمن الرقمي |
NRI (2024) | غير مصنّف (N/A) | 0/133 | قصور مؤسسي في جمع البيانات الرقمية الوطنية، وغياب التعاون مع الجهات الدولية المسؤولة عن قياس جاهزية الشبكات |
من المؤشرات إلى التحوّل… هل يبدأ القرار اليوم؟
إن التحليل المقارن للمؤشرات الأربعة – المؤشر العالمي للأمن السيبراني (GCI)، ومؤشر تطور الحكومة الإلكترونية (EGDI)، ومؤشر الأمن السيبراني الوطني (NCSI)، ومؤشر جاهزية الشبكات (NRI) – يُظهر حقيقة صادمة ولكنها قابلة للعلاج: العراق يقف عند مفترق طرق.
البيانات تُشير بوضوح إلى:
- ضعف الالتزام الوطني بتأمين الفضاء السيبراني.
- تأخر رقمنة الخدمات الحكومية، مما يخلق فجوة ثقة بين المواطن والدولة.
- غياب تطبيق استراتيجيات الأمن الرقمي، حتى لو كانت موجودة نظريًا.
- قصور مؤسسي في جمع البيانات والتعاون مع الهيئات الدولية، مما يُخرج العراق من خريطة المؤشرات الحيوية عالميًا.
لكن هذه الصورة القاتمة ليست قدرًا محتوما، بل هي دعوة إلى العمل السريع والعلمي.
التوصيات الأساسية لصنّاع القرار:
- تبنّي سياسة وطنية للأمن السيبراني:
- إصدار وتفعيل قوانين للجرائم السيبرانية وحماية البيانات.
- إنشاء هيئة وطنية مستقلة للأمن السيبراني.
- تحسين تصنيف EGDI عبر رقمنة الخدمات الحكومية:
- بدءًا بالخدمات ذات الطلب العالي (الجوازات، البطاقة الموحدة، الضرائب).
- اعتماد حلول منخفضة التكلفة مثل المنصات السحابية الحكومية.
- إعادة إحياء استراتيجية الأمن الرقمي الوطني وتطبيقها فعليًا:
- إشراك القطاع الخاص والأكاديمي في التنفيذ.
- تخصيص ميزانيات واضحة لبرامج الأمن السيبراني.
- التأهيل البشري والتحالفات الدولية:
- إدراج برامج تدريبية لمسؤولي الدولة في مجالات الحوكمة الرقمية.
- التعاون مع الأمم المتحدة وITU ومنظمة Portulans للعودة إلى المؤشرات العالمية.
- تأسيس مركز وطني لقياس الجاهزية الرقمية:
- يكون مسؤولًا عن جمع البيانات الرقمية وتحديثها وتزويد الجهات الدولية بها.
الخلاصة:
إن بناء عراق رقمي آمن وحديث ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة سيادية تُمكّن الدولة من حماية نفسها، وخدمة مواطنيها، وجذب الاستثمار، والانخراط في الاقتصاد العالمي. فهل تتخذ الحكومة القرار الآن… قبل أن تتجاوزنا الدول، ويزداد اتساع الفجوة الرقمية.