بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
مستشار في أمن المعلومات والشبكات
مقدّمة:
يشهد العراق في السنوات الأخيرة انفلاتاً رقمياً غير مسبوق، بلغ ذروته في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت من منصّات للتواصل الإنساني والتعبير الحر، إلى ساحاتٍ للشتائم، والتنمر، وتلفيق الأخبار، والابتزاز، والتسقيط السياسي، ونشر المقاطع المفبركة التي تهدف إلى تدمير السمعة وبثّ الانقسام الاجتماعي. لا يمرّ يوم إلا ونشهد حالة انتهاك صارخ لخصوصية الأفراد، أو استغلالًا للمنصات الرقمية في إشعال نار الفتن والفرقة، في ظل غياب منظومة قانونية رادعة تحاسب هذا السلوك أو تردعه.
لقد أصبح الفضاء الرقمي اليوم مرآةً تعكس واقع المجتمعات، لكنه في العراق تحوّل إلى ساحةٍ للانفلات الأخلاقي والقانوني. من التنمر الإلكتروني إلى الابتزاز، ومن نشر الشائعات إلى التزييف العميق للحقائق، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تهديداً حقيقياً للنسيج الاجتماعي، والأمن القومي، وحتى الأمن السيبراني للدولة. غياب التشريعات الصارمة جعل هذا الفضاء أرضاً خصبة للإساءة والتشهير دون محاسبة، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً ومسؤولاً من المشرّعين العراقيين لاستعادة قيم الأخلاق والنظام.
نحن اليوم أمام أزمة أخلاقية وقانونية وثقافية حادّة، تهدد تماسك المجتمع، واستقرار الدولة، وسمعة العراق خارجيًا، وخاصة في المحافل الإقليمية والدولية. هذه الأزمة تستوجب من الجهات التشريعية والتنفيذية موقفاً حازماً، على غرار ما اتخذته دول أوروبية عديدة — وعلى رأسها الدانمارك، وفرنسا، وألمانيا — من قوانين حديثة وحازمة ضد الجرائم الإلكترونية، صُمّمت لحماية الأفراد والمجتمعات من الانزلاق نحو الفوضى الرقمية والانحراف الأخلاقي.
المحور الأول: الجيوش الإلكترونية والتسقيط السياسي
من أخطر مظاهر الانفلات الرقمي في العراق تسخير الجيوش الإلكترونية والحسابات الوهمية لتدمير الخصوم، عبر فبركة صور، أو مقاطع فيديو مزيفة، أو بث معلومات مشوّهة.أصبحت هذه الظاهرة أداة ممنهجة تُستخدم في الحملات السياسية لتصفية الحسابات، والتأثير على الرأي العام من خلال نشر إشاعات وتهم دون دلائل. ويُقدَّر أن آلاف الحسابات الوهمية تُفعَّل في فترات الانتخابات أو عند حدوث أزمات داخلية، ويتم تغذيتها بمعلومات ملفقة أو مُوجَّهة.
وقد بدأت تأثيرات هذه الظاهرة تتجاوز الداخل العراقي، لتصل إلى صورة العراق في المحافل الدولية، وهو ما ظهر جليًا في التحفظات والقلق الإعلامي العربي والدولي خلال انعقاد القمة العربية في بغداد (2025)، بسبب تسونامي من المنشورات التحريضية والمشوهة ضد الحكومة والضيوف، أدارتها حسابات تفتقر للمصداقية.إن استمرار هذا الوضع دون محاسبة يُنذر بفقدان ثقة المجتمع بالدولة، وتحطيم ما تبقى من أواصر الثقة السياسية والاجتماعية، ويجعل من العراق بيئة طاردة للاستثمار، والتعاون الدولي.
المحور الثاني: الابتزاز الرقمي والتشهير
الابتزاز الرقمي (Cyber Extortion) والتشهير عبر الإنترنت أصبحا من الجرائم الإلكترونية المنتشرة بشكل مقلق في العراق، خاصة بين الشباب والنساء. يتمثل الابتزاز الرقمي في تهديد الضحايا بنشر صور شخصية، محادثات خاصة، أو حتى محتوى مفبرك (مثل صور أو فيديوهات تم تعديلها باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي) ما لم يتم دفع مبالغ مالية أو الخضوع لمطالب أخرى. هذه الجرائم تستهدف غالبًا فئات هشة اجتماعيًا، مما يؤدي إلى أضرار نفسية واجتماعية كبيرة.
الأسباب الرئيسية لتزايد هذه الظاهرة:
- سهولة الوصول إلى التكنولوجيا: انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة مشاركة المحتوى يجعلان جمع المعلومات الشخصية أو استغلالها أمرًا يسيرًا.
- غياب الوعي الرقمي: قلة الوعي بأهمية حماية البيانات الشخصية تجعل الشباب والنساء عرضة للوقوع في فخ المبتزين.
- التطور التكنولوجي: استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتزييف الصور أو الفيديوهات يزيد من صعوبة كشف الحقيقة.
- الثغرات القانونية: غياب قوانين صارمة ومحدثة يعزز شعور المجرمين بالحصانة.
التأثيرات: هذه الجرائم تؤدي إلى تدمير سمعة الأفراد، الضغط النفسي، وحتى الانتحار في بعض الحالات. كما أنها تؤثر على الثقة في استخدام التكنولوجيا.
المحور الثالث: التزييف العميق والمحتوى المفبرك
تقنيات التزييف العميق (Deepfake) هي تقنيات متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعديل الفيديوهات أو الصور بطريقة تبدو واقعية للغاية، مما يجعل من الصعب تمييزها عن الحقيقة. في العراق، تُستخدم هذه التقنيات لأغراض خبيثة مثل:
- الفتنة السياسية: إنتاج مقاطع فيديو مفبركة لشخصيات عامة أو سياسيين لإثارة الجدل أو الصراعات الاجتماعية.
- التشهير: استهداف أفراد أو رموز عامة بنشر محتوى مفبرك للإضرار بمصداقيتهم.
التحديات المرتبطة بالتزييف العميق:
- صعوبة الكشف: التزييف العميق يتطلب أدوات تحليل متقدمة لكشفه، وهي غير متوفرة على نطاق واسع في العراق.
- سرعة الانتشار: المحتوى المفبرك ينتشر بسرعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما يجعل السيطرة عليه صعبة.
- التأثير الاجتماعي: يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات الطائفية أو السياسية في بلد مثل العراق الذي يعاني من استقطاب اجتماعي.
الحلول المقترحة: تطوير أدوات للكشف عن التزييف العميق، توعية المجتمع، وتشريعات قانونية تحد من هذه الممارسات.
المحور الرابع: غياب الردع القانوني
العراق يعاني من نقص واضح في التشريعات التي تنظم الجرائم الإلكترونية، مما يجعل من الصعب معاقبة مرتكبي جرائم مثل الابتزاز، التزييف، أو التشهير. القوانين الحالية، مثل قانون العقوبات العراقي، لم تواكب التطورات التكنولوجية، وبالتالي لا تشمل العديد من الجرائم الرقمية الحديثة.
المشكلات الناتجة عن غياب الردع القانوني:
- الحصانة الفعلية للمجرمين: المجرمون الرقميون يشعرون بأنهم في مأمن من العقاب بسبب غياب قوانين واضحة.
- ضعف الثقة في الحلول القضائية: الضحايا يترددون في الإبلاغ عن الجرائم بسبب عدم وجود آليات فعالة لمعالجة شكاواهم.
- تزايد الجرائم: الفراغ القانوني يشجع على ارتكاب المزيد من الجرائم الإلكترونية.
الاحتياجات: هناك حاجة ماسة إلى إصلاح تشريعي يشمل قوانين محددة للجرائم الإلكترونية، مع آليات تنفيذ فعالة وسريعة ورادعة.
المحور الخامس: الحلول القانونية المقترحة – نحو قانون جرائم إلكترونية عصري
لمعالجة التحديات المذكورة أعلاه، اقترح مجموعة من الحلول القانونية والتنظيمية للحد من الجرائم الإلكترونية في العراق:
إصدار قانون شامل للجرائم الإلكترونية:
- إنشاء هيئة وطنية للأمن الرقمي:هيئة مستقلة تتولى مراقبة المحتوى الرقمي، التحقيق في الشكاوى،
- تطوير استراتيجيات للأمن السيبراني.يمكن أن تكون بمثابة مركز للإبلاغ عن الجرائم الإلكترونية وتقديم الدعم للضحايا.
- التعاون مع شركات التواصل الاجتماعي:إقامة شراكات مع منصات مثل فيسبوك، تويتر، ويوتيوب لتسريع حذف المحتوى المسيء أو المفبرك.
- تطوير آليات للإبلاغ المباشر عن المحتوى غير القانوني.
- سن عقوبات صارمة:فرض عقوبات مالية وسجنية على من ينشرون أو يشاركون محتوى مفبرك أو يحرضون على الكراهية والعنف.
- التأكيد على أن العقوبات تشمل الجميع، بما في ذلك الأفراد والجهات التي تسهم في نشر المحتوى الضار.
يجب أن يغطي هذا القانون جميع أشكال الجرائم الرقمية، بما في ذلك التنمر الإلكتروني، التزييف العميق، الابتزاز، انتهاك الخصوصية، والتحريض على العنف والأهانة و الشتائم.ينبغي أن يتضمن تعريفات واضحة لهذه الجرائم مع عقوبات متناسبة.
أهمية هذه الحلول:
- تعزيز الأمن الرقمي في العراق.
- حماية خصوصية الأفراد وسمعتهم.
- تقليل التأثيرات السلبية للجرائم الإلكترونية على المجتمع.
- بناء ثقة المواطنين في النظام القانوني والتكنولوجي.
الخلاصة
المحاور الخمسة تعكس التحديات الكبيرة التي تواجه العراق في مواجهة الجرائم الإلكترونية. الابتزاز الرقمي والتزييف العميق يهددان الأمن الاجتماعي والنفسي، بينما غياب التشريعات المناسبة يفاقم المشكلة. الحلول المقترحة، مثل إصدار قانون شامل وإنشاء هيئة للأمن الرقمي، تمثل خطوات حاسمة نحو بناء بيئة رقمية آمنة. يتطلب الأمر تعاونًا بين الحكومة، المجتمع، والشركات التقنية لتحقيق ذلك.