بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
مستشار في أمن المعلومات والشبكات
المقدمة:
في خضمّ التحوّلات الجيوسياسية والتقنية التي يشهدها العالم، لم تعد الحرب تقتصر على الاشتباك المسلح أو الهجمات السيبرانية التقليدية، بل تطوّرت لتتّخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وخفاءً، من أبرزها اختراق سلاسل التوريد. هذا النمط من العمليات يُشكّل تهديدًا مزدوجًا: فهو يخترق الثقة الممنوحة للموردين والبُنى التقنية، ويستغل تلك الثقة لتسريب أدوات قتل مقنّعة ضمن منتجات مدنية يُفترض أن تكون آمنة. يظهر هذا التهديد جليًا في استخدام منتجات إلكترونية مفخخة تم تمريرها ضمن معدات عسكرية أو شبه عسكرية، كما حدث في نموذج نظارات الـ FPV التي زرعت فيها الاستخبارات العسكرية الأوكرانية (HUR) متفجرات وهو من خلال اختراق سلسلة التوريدات لجيش الروسي.
يتناول هذا المقال تحليلًا معمّقًا لهذه الظاهرة، موضحًا كيف يتم التمهيد لها استخباراتيًا، ثم تنفيذها مخابراتيًا، ما يجعلها مزيجًا قاتلًا من جمع المعلومات وتنفيذ الهجوم. كما يُسلّط الضوء على البُعد التقني والنفسي لهذه الهجمات، وانعكاساتها على الثقة في سلاسل الإمداد العالمية. وتأتي أهمية هذا الطرح من واقع أن التهديد لم يعد فقط في الكودات البرمجية الخبيثة، بل في كل شريحة إلكترونية قد تحمل بداخلها شحنة موت.
ماذا نعني باختراق سلسلة التوريد؟
اختراق سلسلة التوريد هو أسلوب خبيث يتمثّل في إدخال منتجات أو مكونات مفخخة أو معدّلة ضمن سلاسل الإمداد الطبيعية، بحيث تمرّ عبر منافذ موثوقة لا تثير الشك لدى الجهة المستهدفة. تكمن خطورة هذا الأسلوب في استغلال الثقة المتبادلة بين الأطراف التجارية أو التقنية، لتسليم أدوات تبدو مدنية في ظاهرها، لكنها تحمل في طيّاتها تهديدات أمنية أو تفجيرية عالية الخطورة.
هذا النوع من العمليات يُعدّ تطورًا نوعيًا في استخدام الأدوات المدنية لأغراض عدائية، حيث يجمع بين نوعين من الأنشطة:
الأنشطة الاستخباراتية: تركّز على جمع وتحليل المعلومات، وتتطلّب فهمًا عميقًا لهياكل العدو، سلوكياته، ونقاط ضعفه. في سياق اختراق سلسلة التوريد، يُستخدم العمل الاستخباراتي لتحديد أهداف دقيقة، مثل أنواع المعدات المستخدمة، ومورّديها، وسلاسل التوزيع المعتمدة.
الأنشطة المخابراتية: ترتبط بالتنفيذ العملياتي الخفي لأهداف هجومية، مثل زرع أجهزة متفجّرة أو إدخال مكونات ضارّة ضمن منتجات مشروعة، بغرض إلحاق الأذى أو تدمير الهدف في وقت لاحق.
هل هذه عمليات استخباراتية أم مخابراتية؟
يمكن اعتبار اختراق سلسلة التوريد مزيجًا من العمليتين معًا. فهو يبدأ بمرحلة استخبارية تتطلّب تخطيطًا دقيقًا وجمعًا للمعلومات لضمان نجاح الاختراق دون انكشاف، ثم ينتقل إلى مرحلة مخابراتية تنفيذية يتم فيها زرع الخطر وتفعيله في الوقت المناسب لإلحاق الضرر بالهدف.
بمعنى آخر، الاستخبارات توفّر العقل، والمخابرات تُنفّذ اليد. في حالة التكنولوجيا المفخخة، هذا التكامل بين العقل واليد ينتج عنه تهديدات مركّبة قد تؤدي إلى خسائر بشرية أو مادية جسيمة، ما يجعلها من أخطر أنواع الاختراقات في بيئة الأمن الوطني والسيبراني الحديثة.
أوكرانيا وأختراق سلسلة توريد نظارات FPV الروسية
تفاصيل الحادثة:
- التوقيت والموقع: وقعت الانفجارات بين 4 و7 فبراير 2025 في مناطق بيلغورود، كورسك، لوهانسك، ودونيتسك.
- الآلية: كانت النظارات تحتوي على حوالي 10 إلى 15 غرامًا من المتفجرات البلاستيكية، يُرجّح أنها من نوع C-4 أو مادة مماثلة. المتفجرة، بالإضافة إلى مفجر وبطارية. تم توصيل العبوة الناسفة بمروحة التبريد داخل النظارات، بحيث تنفجر عند تشغيل الجهاز.
- الجهة المسؤولة: وفقًا لتقارير متعددة، يُعتقد أن الاستخبارات العسكرية الأوكرانية (HUR) هي التي نفذت هذه العملية، حيث قامت بتعديل النظارات لتحتوي على متفجرات، ثم تم إرسالها إلى القوات الروسية عبر متطوعين ادعوا أنها مساعدات إنسانية.

الصورة أعلاه هي صورة تسويقية لنظارات سكاي زون كوبرا FPV من أحد الأعلانات .
تعتبر هذه الحادثة أحد أكثر الأمثلة وضوحًا على توظيف اختراق سلسلة التوريد لأغراض قتالية مباشرة، استخدمت أوكرانيا تكتيكًا بالغ الذكاء والخطورة ضد القوات الروسية، عبر تزويد ساحة القتال بأجهزة مدنية مفخخة تُستخدم عادةً في عمليات توجيه الطائرات المسيّرة (الدرونز).
النتائج المؤكدة:
- إصابة ما لا يقل عن 8 جنود روس بالعمى نتيجة للانفجار المباشر قرب منطقة الوجه والجمجمة.
- ضرب الثقة في المعدات الإلكترونية التي تعتمد عليها روسيا في توجيه الدرونز.
- تأثير نفسي ومعنوي على وحدات المشاة والفنيين، الذين باتوا يتشككون في المعدات التي يتسلّمونها.
تحليل المخاطر:
هذه العملية تمثّل نقلة نوعية في الحروب الحديثة، حيث لم يعد السلاح مقصورًا على البنادق والصواريخ، بل يمكن أن يكون في هيئة جهاز بصري أو أداة تحكّم. تكمن خطورة هذه الهجمات في عدة نقاط:
انعدام التوقّع: الجهاز يبدو مدنيًا وسليمًا، ما يجعله يمرّ بسهولة عبر الفحص البصري والجمركي، ولا يثير الشك.
قرب الجهاز من الجسم البشري: التفجير يحصل في موضع حساس – قرب العينين والدماغ – ما يضمن تأثيرًا جسديًا مدمّرًا.
تآكل الثقة في سلسلة الإمداد: بعد هذا النوع من العمليات، لا يعود من السهل الاعتماد على أي منتج تقني دون شك، حتى لو كان من مصدر موثوق.
المقارنة مع عملية “البيجرات المفخخة” – سبتمبر 2024:
تشير هذه العملية الأوكرانية إلى تطور منهجي في تسليح المنتجات المدنية، مشابه لما حدث في سبتمبر 2024، حين تم تفجير بيجرات مفخخة تم تسليمها لعناصر من حزب الله، وأدّت إلى سقوط شهداء وجرحى من داخل التنظيم نفسه. لكن الاختلاف الجوهري هنا أن نظارات FPV تُستخدم مباشرة في ساحة القتال، والتفجير يحصل لحظة التشغيل، ما يجعلها أكثر تطورًا من حيث التوقيت والتأثير.
إن عملية نظارات FPV ليست مجرد عملية تكتيكية ناجحة، بل تدشّن جيلًا جديدًا من الحرب يعتمد على دمج المعرفة التقنية بالعمليات الأمنية، ويؤكد أن أي جهاز مدني قد يصبح قنبلة موقوتة. ما يجعل التحديات أمام الجهات الأمنية والدفاعية مضاعفة، ويطرح تساؤلات عميقة حول مدى جهوزية الدول لفحص وتأمين سلاسل توريدها التقنية والعسكرية.
كيف تحوّلت الأجهزة اليومية إلى أدوات حرب
تشير كل من عملية نظارات FPV الأوكرانية و تفجير البيجرات المنسوبة إلى الموساد ضد عناصر حزب الله إلى نمط جديد من الحروب، لا تُخاض فيه المعركة بالبندقية أو الطائرة، بل بأدوات يومية تبدو بريئة تمامًا. في هذا النمط، قد تكون النظارة وسيلة للعمى، والبيجر ناقلًا للموت، والهاتف خلية نائمة تنتظر لحظة التشغيل.
الأسلحة في هذا السياق ليست ظاهرية، بل مخفية داخل أدوات الاتصال والمراقبة التي يعتمد عليها الجنود والعملاء في مهامهم اليومية. إننا أمام تقاطع خطير بين الهندسة الدقيقة، الإلكترونيات الاستهلاكية، والعمل الاستخباراتي والمخابراتي، حيث لم يعد بالإمكان الوثوق بأي منتج تقني، حتى وإن بدا محايدًا.
تداعيات استراتيجية مقلقة:
- انهيار الثقة في العتاد المستورد، خاصة من السوق المفتوحة أو عبر وسطاء غير موثوقين. الجندي أو العميل لم يعد يعلم إن كان الجهاز بيده أداة مساعدة أم فخًا مميتًا.
- امتداد المعركة إلى البنية التحتية التكنولوجية، مما يحوّل الحرب من مواجهة تقليدية إلى صراع سيبراني خفي، يتغلغل في شبكات الإمداد، وأنظمة الشراء، ودوائر التصنيع.
- نهاية وهم “الحياد التكنولوجي”: لم تعد هناك تكنولوجيا مدنية بمعزل عن الصراع، فكل منتج قابل للتسليح، وكل سلسلة توريد قابلة للاختراق.
حين تنفجر تكنولوجيا ثم تسيل الدماء
من نظارات FPV شرق أوكرانيا إلى بيجرات جنوب لبنان، الرسالة باتت واضحة لا توجد أدوات بريئة بعد الآن. في عصر ما بعد الحقيقة، كل شيء قابل للتفخيخ، وكل جهاز يمكن تحويله إلى سلاح فتاك بلمسة واحدة.
إننا نعيش مرحلة “حرب تكنولوجيا الدقيقة” – ليس فقط في الإصابة، بل في اختيار الوسيلة.
هنا تنفجر التكنولوجيا أولًا، ثم تسيل الدماء. ومن يتأخر عن فهم هذا التحوّل، لن يقدر على حماية نفسه من القنابل القادمة من أقرب متجر إلكتروني.
توصيات استراتيجية للحكومة العراقية لتأمين سلاسل التوريد التقنية والعسكرية
- تأسيس مركز وطني لمراقبة سلاسل التوريد (National Supply Chain Security Center)
• يتولى مراقبة وفحص جميع المكونات المستوردة ذات الصلة بالبنى التحتية الحيوية، لا سيما الإلكترونية والعسكرية.
• يشمل كوادر فنية متخصصة في الأمن السيبراني، الهندسة العكسية، والفحص الفيزيائي للمكونات.
• يستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن الأنماط الشاذة في الأجهزة المستوردة.
- فرض فحوصات تقنية متقدمة عند الاستيراد
تطبيق فحص تقني غير تقليدي على المنتجات القادمة من مناطق صراع أو دول مشبوهة، مثل:
1) فحوص الأشعة (X-Ray, CT Scanning)
2) التحليل الطيفي للمكونات
3) اختبارات التشغيل في بيئات مراقبة
4) اعتماد نموذج “Zero Trust” أي نسبة الثقة صفر في التعامل مع أجهزة تُستخدم في قطاعات حساسة مثل الدفاع، الطاقة، الاتصالات.
- إعادة تقييم عقود التوريد للقطاعين الأمني والعسكري
• مراجعة جميع العقود التقنية السابقة مع أطراف دولية أو مجهولة المصدر.
• اعتماد سياسة “شفافية المورد” (Supplier Transparency) عبر فرض تقديم شهادات منشأ وتحليل سلامة المصنع.
• منع الوسطاء غير الرسميين من الدخول في سلاسل التوريد المتعلقة بالأمن الوطني.
- تعزيز التصنيع المحلي والتجميع داخل العراق
• تقليل الاعتماد على الأجهزة المستوردة عبر تشجيع التصنيع المحلي للمكوّنات الحساسة.
• حتى إن لم تكن صناعتها ممكنة بالكامل، فإن تجميعها محليًا يُقلل من خطر تضمين مكونات خبيثة.
• إقامة شراكات تقنية مع دول موثوقة لإنشاء خطوط إنتاج داخلية.
- تدريب الكوادر الأمنية والفنية على تقنيات الهندسة العكسية
• توفير برامج تدريبية متقدمة لمهندسي الدفاع والاستخبارات الرقمية لفحص وتحليل الأجهزة، وتحديد إمكانية وجود “Backdoors” أو مكونات مفخخة.
• دعم إنشاء فرق ردع تقني متخصصة في الأمن الوقائي الإلكتروني (Cyber-Preventive Engineering).
- إنشاء سجل وطني للأجهزة والمكوّنات المستخدمة في القطاعات السيادية
• قاعدة بيانات وطنية تحتوي على:
o تفاصيل الأجهزة التقنية المستخدمة.
o الشركات المصنعة والموردة.
o نتائج الفحص الدوري لكل جهاز.
o هذه القاعدة يمكن ربطها بأنظمة الإنذار المبكر (Early Warning Systems) للكشف عن أي نشاط غير طبيعي.
- اعتماد إطار سياسات تشريعي لحماية سلاسل التوريد
• سنّ قوانين وطنية تجرّم التعامل مع موردين ذوي سوابق في التوريد المشتبه به أو من مناطق صراع.
• إلزام الجهات الحكومية بالرجوع إلى المركز الوطني لمراقبة سلسلة التوريد قبل شراء أي معدات تقنية.
- التعاون الدولي الاستخباراتي والفني
بناء علاقات استخباراتية فنية (TECHINT) مع دول صديقة تمتلك خبرات في تتبع الأجهزة المفخخة أو البرمجيات الخبيثة في سلاسل التوريد.
الانضمام إلى تحالفات دولية مثل:
1) ITI – International Technology Integrity Forum
2) Global Forum on Cyber Expertise (GFCE)
- نشر التوعية داخل المؤسسات السيادية
1) إصدار بروتوكولات توعية ودورات إلزامية لجميع الموظفين في المؤسسات الأمنية والعسكرية عن مخاطر أجهزة تبدو مدنية.
2) تضمين سيناريوهات اختراق سلسلة التوريد في التدريبات العسكرية والأمنية. خلاصة تنفيذية
يجب على الدولة العراقية أن تتعامل مع اختراق سلاسل التوريد بصفته تهديدًا وجوديًا، وليس مجرد مخاطر تقنية. الدروس المستخلصة من أوكرانيا ولبنان توضح أن أي جهاز مدني من نظارة FPV إلى جهاز بيجر قد يكون قنبلة موقوتة موجهة ضد سيادة الدولة. لذا، فإن هذه التوصيات تمثل حجر الأساس لإنشاء منظومة وطنية متكاملة لحماية سلاسل الإمداد ضد الاختراقات التي تجمع بين الذكاء الاصطناعي، الحروب الإلكترونية، والعمليات الأمنية السرية.
الخاتمة:
إن التطورات الأخيرة في أساليب الحروب والاستخبارات تدفعنا لإعادة النظر بشكل جذري في مفاهيم الأمن القومي والسيبراني. لم تعد سلاسل التوريد مجرد مسارات لوجستية تجارية، بل تحوّلت إلى جبهات غير معلنة للصراع، يُمكن من خلالها تهريب القتل والدمار في صناديق إلكترونية أنيقة، تُفتح داخل غرف القيادة أو ميادين الحرب دون سابق إنذار.
إن نموذج نظارات FPV المفخخة، وما سبقها من عمليات مشابهة كحادثة البيجرات المفخخة، يشكّلان تحذيرًا صارخًا لكل دولة تعتمد على المعدات التقنية المستوردة دون امتلاك منظومة فحص وتحليل عميقة ومستقلة.
العراق، وغيره من الدول النامية أو الخارجة من أزمات أمنية مزمنة، هو الأكثر عرضةً لهذه التهديدات المركبة، ما يستدعي استجابة استراتيجية تجمع بين الأمن السيبراني، الأمن العسكري، والرقابة الاستخباراتية التقنية.
لم يعد السؤال “هل نحن معرضون للخطر؟”، بل “كم من تلك الأجهزة التي بين أيدينا تحمل الموت في طياتها؟”. إن التكنولوجيات التي نراها أدوات للتنمية، يمكن أن تتحول في لحظة إلى أدوات للموت، إذا لم نُحسن تأمين سلاسل التوريد والتحقق من كل منتج ومكوّن ومصدر.
إن الأمن اليوم يبدأ من المصنع، ويمتد عبر الحاويات والموانئ ومخازن الدولة… وصولًا إلى يد الجندي أو الموظف أو المواطن الذي يستخدم هذه الأدوات. وبهذا، يصبح تأمين سلسلة التوريد أمنًا وطنيًا من الدرجة الأولى، لا ترفًا بيروقراطيًا. دمتم بخير
المصدر
Booby-Trapped FPV Goggles Blinded 8 Russian Drone Operators
Kyiv Post، تقرير 6 فبراير 2025: