بقلم: المهندس مصطفى كامل الشريف
مستشار في أمن المعلومات والشبكات
مقدمة
في تصريحٍ لافتٍ أثار الكثير من النقاشات، تحدث بيل غيتس، رجل الأعمال الشهير ومؤسس شركة مايكروسوفت، عن اختفاء بعض المهن بعد عشر سنوات، وكان من بينها مهنة الطبيب. هذا التصريح لم يكن مجرد توقّع، بل دعوة للتفكير في مستقبل العمل في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. وقد صرّح غيتس قائلاً: (سنصل إلى مرحلة يصبح فيها الذكاء الاصطناعي قادرًا على أداء العديد من الوظائف بمهارة تضاهي البشر، بما فيها مهنة الطبيب). كلامه هذا أثار جدلاً واسعًا، لا سيما في مجالات الرعاية الصحية، التي يعتبر فيها الإنسان عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه.
في هذا المقال، أود أن أتناول هذه الرؤية من منظور علمي متوازن، مستعرضًا آخر الدراسات والتطورات التي اعتمدت عليها في تأليف كتابي “إنترنت الأشياء ومستقبل العالم” في فصل الطب، وكذلك في كتابي الذي سوف يصدر قريباً “مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي: بوابتك إلى المستقبل الرقمي” في فصل الذكاء الاصطناعي والطب. سأحاول أن أقدم نظرة شاملة تتسم بالموضوعية، متناولًا تأثير هذه التقنية على الطب ومستقبل المهن الطبية.
تحليل تصريح بيل غيتس
تصريح بيل غيتس كان جزءًا من نقاش أوسع حول تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل. حين ننظر بعمق، نجد أن العديد من المهن فعلاً معرضة للزوال أو لإعادة الهيكلة بسبب الأتمتة والتقنيات الذكية. ولكن هل يعني ذلك اختفاء مهنة الطبيب تمامًا؟ هذا ما سنناقشه بتفصيل.
المهن المهددة بالزوال
بحسب تقارير اقتصادية عالمية، أبرز المهن المعرضة للاختفاء أو التحول الجذري تشمل:
- موظفو خدمات العملاء.
- عمال المصانع والخدمات اللوجستية.
- سائقي الشاحنات والمركبات.
- وظائف المحاسبة البسيطة.
هذه المهن تعتمد على تكرار العمليات وقابلية الأتمتة العالية، ما يجعلها أهدافًا سهلة للذكاء الاصطناعي.
المهن الصاعدة في عصر الذكاء الاصطناعي
في المقابل، ظهرت مجالات جديدة ووظائف مطلوبة مثل:
- مهندسين في مجال الذكاء الاصطناعي.
- مختصو أمن المعلومات.
- مطورو حلول الرعاية الصحية الذكية.
- خبراء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
وهذا يعكس أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي الوظائف فحسب، بل يخلق فرصًا مبتكرة.
هل مهنة الطب ستختفي فعلًا؟
الرعاية الصحية مجال معقد للغاية. يتطلب التشخيص والعلاج مزيجًا من المعرفة الطبية العميقة، والخبرة السريرية، والتواصل الإنساني الدافئ مع المرضى، وهو ما يصعب على الآلة تقليده بالكامل.
بيل غيتس قدم تصوراً مستقبلياً صحيح الاتجاه، لكنه اختزل الصورة بطريقة مثيرة إعلامياً، ولم يوضح الفروقات الدقيقة بين مختلف أنواع الوظائف الطبية. لأنه في تصريحه اختزل إحدى نتائج هذه الدراسة (التفوق في التشخيص الآلي) وأضفاها على السياق المستقبلي، مما قد يُفهم منه أن الذكاء الاصطناعي سيغير جذرياً كثيراً من وظائف الطب التقليدية.ولكن لم يعتمد على نص صريح من Rajpurkar et al. يقول سوف تنقرض مهنة الطب في دراسة Nature Medicine (2019) .
دراسات مثل دراسة Rajpurkar وفريقه أظهرت أن الذكاء الاصطناعي يستطيع التفوق على الأطباء في مهام تشخيصية محددة، لكنه لا يستطيع حالياً أو في المستقبل المنظور أن يحل محل مهنة الطب بالكامل، بل سيكون أداة داعمة للأطباء.
نص الدراسة.
بعد أن أطلعت على الدراسة و تفاصيلها أريد أن أختصر ماجاء في نصها بأختصار:
فريق Pranav Rajpurkar في دراسته المنشورة في Nature Medicine عام 2019 لم يدّعِ أن مهنة الطب ستنقرض بحلول 2035 ولا في أي وقت آخر .ما أثبتته الدراسة بالتحديد هو أن بعض نماذج الذكاء الاصطناعي، مثل CheXNet، تمكنت من التفوق على أداء اختصاصيي الأشعة في تشخيص أمراض معينة بدقة أعلى، خصوصاً:
- سرطان الثدي (عبر قراءة صور الماموغرام)
- الأمراض الصدرية (عبر قراءة صور الأشعة السينية)
وركزت الدراسة على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن:
- يقلل من نسبة الأخطاء البشرية.
- يكون أداة داعمة للأطباء.
- يساهم في تحسين سرعة التشخيص وجودته.
ولكن فريق البحث لم يذكر إطلاقاً أن مهنة الطب أو الأطباء سيختفون، بل بالعكس أكدوا على أن الذكاء الاصطناعي سيكون مساعدًا سريرياً يدعم الأطباء بدل أن يحل محلهم. وذكروا أن الرعاية الطبية تعتمد ليس فقط على التشخيص، بل أيضاً على التواصل الإنساني، القرار الأخلاقي، والتعامل مع الحالات المعقدة التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي معالجتها بمفرده. كذلك هناك منصات الذكاء الاصطناعي الطبي، مثل أنظمة IBM Watson Health أو Google DeepMind Health، تتفوق في تشخيص بعض الأمراض، خصوصاً في مجالات مثل سرطان الجلد والأشعة الطبية.
هذا النوع من الدراسات أثار تساؤلات واسعة أهمها هل سيُصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً كاملاً عن الأطباء؟
هناك تقرير أجاب على هذا السؤال صدر عام 2022 من جامعة ستانفورد (الذكاء الاصطناعي في مشهد الرعاية الصحية – 2022)
Stanford University (The AI in Healthcare Landscape -2022)
مضمون هذا التقرير أكثر واقعية حين تحدث بوضوح ودقة و ذكر أن الذكاء الاصطناعي لن يُلغي مهنة الطب، بل سيُصبح (مساعدًا ذكيًا) يعزز أداء الأطباء في التشخيص والمتابعة وليس بديلاً عنهم، حالهم حال أي مهن أخرى يعزز الذكاء الاصطناعي عملها وأشار إلى أهمية الجوانب الإنسانية التي يصعب على الذكاء الاصطناعي تقليدها مثل:
- التواصل العاطفي مع المرضى
- الرعاية النفسية والاجتماعية
- اتخاذ القرارات الطبية المعقدة متعددة العوامل.
نبذة عن الباحث Pranav Rajpurkar وفريقه.
هو باحث بارز في مجال الذكاء الاصطناعي التطبيقي في الطب، وكان في وقت إجراء الدراسة (2019) زميل باحث في مختبر Machine Learning Group في جامعة ستانفورد تحت إشراف البروفيسور Andrew Ng، أحد أعمدة أبحاث الذكاء الاصطناعي في العالم. تخصصه الدقيق هو تطوير نماذج تعلم عميق Deep Learning قادرة على تشخيص الأمراض من صور الأشعة الطبية مثل الأشعة السينية وأشعة الثدي (Mammography).من أبرز مشاريعه أيضًا تطوير نموذج CheXNet، وهو شبكة عصبية قادرة على تشخيص الالتهاب الرئوي من صور الصدر بدقة تضاهي أداء أطباء الأشعة.
الفريق البحثي المشارك معه في دراسة 2019:
كان فريقًا متعدد التخصصات، يتكون من خبراء في مجالات:
الذكاء الاصطناعي / الطب السريري/ الأشعة التشخيصية/ علم البيانات
عملوا مع مؤسسات رائدة مثل:
- Stanford Medicine
- Google Health
- Harvard Medical School
تميز الفريق بأنه دمج بين الخبرة التقنية العميقة والفهم السريري العملي، ما أعطى نتائج موثوقة جدًا وعالية الدقة.
تجربة نظام Suki AI
ذكر بيل غيتس بتصريحه أن نظام (سوكي) الطبي قلّص وقت الفحوصات بنسبة 50% هذا يعتبر مثال عملي على التكامل بين الذكاء الاصطناعي والأطباء لأن نظام Suki AI هو (مساعد صوتي طبي) قائم على الذكاء الاصطناعي. ، وهو مساعد ذكي يستخدم لمعالجة الملاحظات الطبية وتلخيصها، يساعد الأطباء في توثيق السجلات الطبية بشكل أسرع عبر الأوامر الصوتية بدلاً من الكتابة اليدوية، مما قلل من الوقت الذي يقضيه الأطباء في الأعمال الورقية بنحو 50% بحسب تقارير 2019-2021. مما يوفر وقت الأطباء ليركزوا أكثر على مرضاهم بدلاً من الأعمال الإدارية. هذا الابتكار يدعم الأطباء بدلاً من استبدالهم.
تفسير تهديد 86 ألف وظيفة طبية
ذكر بيل غيتس تشير بعض التقارير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تقليص حوالي 86,000 وظيفة طبية بحلول عام 2035. ولكن معظم هذه الوظائف هي وظائف إدارية أو مساعدة لا تتطلب خبرة طبية متقدمة. الأطباء المتخصصون والجراحون سيظلون في طليعة الرعاية الصحية، مدعومين بالتقنيات الذكية.
خلاصة وتوصيات
التطور في الذكاء الاصطناعي مذهل، لكنه لن يحل محل الإنسان تمامًا في مهنة الطب. بل سيعيد تشكيلها، بحيث تصبح أكثر كفاءة وفعالية وإنسانية.لذا على الأطباء والطلاب وأصحاب المهن الصحية أن يتبنوا التعلم المستمر لمواكبة هذه التقنيات، وأن يركزوا على تنمية مهاراتهم الإنسانية التي لا تستطيع الآلة تقليدها.وهنا أريد أن أذكر شيئ مهم بحسب تقرير حديث نشرته World Economic Forum في 2024، فإن مهارات التفكير النقدي، والذكاء العاطفي، والتواصل الفعال ستصبح من أهم عوامل النجاح في عالم يعمل فيه الإنسان جنبًا إلى جنب مع الآلة. لذلك لايمكن الأستغناء عن البشر في مهنة الطب.الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للطبيب ولا منافس له ولا يهدد مستقبله ، بل هو شريكٌ جديدٌ في رحلة الطب نحو مستقبل أفضل وخدمات أعلا جودة و نتائج وتشخيص أدق.