كيف تصنع التكنولوجيا تبعية استراتيجية حتى بين الحلفاء؟
في عصر التكنلوجيا الفائقة المتمثلة في الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، لم تعد قيمة السلاح تُقاس فقط بمداه، سرعته، أو قوته التدميرية، بل أصبحت “السيادة التشغيلية” هي المعيار الأخطر في حسابات الدول الحديثة.
السؤال الجوهري اليوم لم يعد: ما مدى تطور السلاح؟ بل: هل تملك الدولة “زر التشغيل والإيقاف”؟ أم أن هناك من يستطيع التحكم فيه عن بعد؟
في هذا المقال، أناقش مفهوم السيادة التشغيلية، وأسلط الضوء على حادثة HIMARS في أوكرانيا، والمخاوف الأوروبية والكندية من النفوذ الأميركي في تكنولوجيا السلاح، وانعكاسات كل ذلك على مستقبل الصناعة الدفاعية العالمية.
أولاً: ما هي السيادة التشغيلية؟
السيادة التشغيلية (Operational Sovereignty) تعني قدرة الدولة على استخدام، صيانة، تحديث، وتوجيه السلاح بشكل مستقل تمامًا، دون الحاجة للرجوع إلى الدولة المصنعة أو المزودة.
تشمل هذه السيادة:
- الوصول الكامل إلى البرمجيات الداخلية للسلاح.
- التحكم في نظم التشفير وتحديثاتها.
- الاستقلال في استخدام الأقمار الاصطناعية المرتبطة بالسلاح.
- دمج السلاح مع أنظمة القيادة والسيطرة الوطنية.
ولكن في الواقع، معظم الأسلحة الحديثة مرتبطة ببنية تحتية رقمية فضائية تديرها دول مزودة مثل الولايات المتحدة، مما يجعل تحقيق السيادة التشغيلية أمرًا بالغ التعقيد.
ثانياً: حادثة HIMARS في أوكرانيا نموذج عملي لفقدان السيادة
بعد اللقاء المثير لجدل بين الرئيس الأوكراني زلنسكي و الرئيس ترامب، ظهرت تقارير تفيد بأن الولايات المتحدة قيدت قدرات راجمات HIMARS التي زودت بها أوكرانيا، لا سيما فيما يخص دقة التوجيه عبر الأقمار الاصطناعية.الهدف، حسب هذه التقارير، كان منع أوكرانيا من ضرب أهداف داخل العمق الروسي. هذا الحادث يوضح كيف يمكن للسلاح الحديث أن يُراقَب أو يُعطَّل عن بعد، مما يحوّل “المساعدة الدفاعية” إلى أداة ضبط استراتيجية.
التقارير أشارت إلى أن الولايات المتحدة منعت أوكرانيا من استخدام الراجمات لضرب أهداف داخل العمق الروسي، من خلال:
- التحكم بخوارزميات التوجيه التي تعتمد على الأقمار الاصطناعية الأميركية (GPS).
- حجب بيانات مواقع محددة جغرافيًا (Geo-fencing).
- استخدام طبقات من البرمجيات لا تفتح إمكانيات معينة إلا بإذن من مشغّلي النظام في الولايات المتحدة.
الأبعاد التقنية: كيف يتم فرض القيود؟
السلاح الحديث – مثل HIMARS – لم يعد يعتمد فقط على القدرات الميكانيكية، بل على منظومة رقمية معقدة تشمل:
- أجهزة استقبال للأقمار الصناعية (GPS) يتم التحكم بها من خلال مفاتيح رقمية تصدرها الولايات المتحدة.
- برمجيات إطلاق وتوجيه مشفرة، يُمنح للدولة المستفيدة منها فقط “حق الاستخدام”، وليس “حق التعديل أو التوجيه الحر”.
- إمكانية التحديث أو الإيقاف عن بعد، بحيث يمكن للولايات المتحدة تعطيل النظام، أو تقليص دقته، من خلال تحديثات برمجية أو قطع الاتصال بالأقمار الصناعية.
- نظام “التحكم في الاستخدام النهائي” (End-User Control Systems)، وهو نظام مصمم لمنع نقل السلاح لطرف ثالث، لكنه يُستخدم أيضًا للحد من حرية الاستخدام الجغرافي والسياسي.
التداعيات الاستراتيجية
1. تآكل مفهوم السيادة التشغيلية
رغم أن أوكرانيا دولة ذات سيادة وفي حالة حرب، فإن اعتمادها على سلاح أميركي “ذو مفتاح رقمي خارجي” جعلها مقيدة في استخدام هذا السلاح. فقرار الضرب أو الامتناع لم يعد قرارًا سياديًا بالكامل.
2. المساعدة الدفاعية تتحول إلى أداة ضغط
عندما تُقدِّم دولة عظمى سلاحًا لدولة حليفة، لكنها تحتفظ بمفاتيح التشغيل الحرجة، فإنها تستطيع – نظريًا وعمليًا – فرض شروط سياسية، مثل:
- منع استخدام السلاح في مناطق محددة.
- إيقاف تشغيله في حال خُرقت الشروط.
- طلب تنسيق مستمر قبل كل استخدام حساس.
3. نقاش مفتوح بين الدول المستفيدة
هذه الحادثة أشعلت نقاشًا في أوساط الدول التي تشتري السلاح الأميركي، ودفعت بعضها إلى:
- الضغط للحصول على السيادة التشغيلية الكاملة.
- استثمار مليارات الدولارات في الصناعات الدفاعية المحلية.
- النظر في بدائل أكثر “استقلالية تشغيلية” من دول مثل فرنسا أو كوريا الجنوبية.
الرسالة الأعمق: التكنولوجيا كسلاح سياسي
حادثة HIMARS في أوكرانيا لم تكن مجرد قرار عسكري، بل هي مثال حي على تحول التكنولوجيا إلى أداة هندسة جيوسياسية. السلاح لم يعد مجرد أداة تدمير، بل أصبح:
- أداة رقابة (Surveillance).
- أداة ضبط السلوك (Behavioral Control).
- وسيلة تأثير سياسي (Strategic Leverage).
ثالثاً: إنترنت الأشياء العسكري والأقمار الصناعية العمود الفقري للسيطرة
تكنولوجيا إنترنت الأشياء العسكري (IoMT) تشمل:
- طائرات مسيّرة متصلة بشبكات القيادة.
- راجمات ودبابات مزوّدة بأجهزة استشعار وتوجيه عن بعد.
- نظم أسلحة فردية تتصل بمنظومات إدارة المعركة.
في حال لم تملك الدولة بنيتها الفضائية والرقمية المستقلة، فإنها تواجه مخاطر:
- تعطيل السلاح عن بُعد.
- منع التحديثات البرمجية.
- حجب بيانات الأقمار الاصطناعية.
- صعوبة التوافق مع أنظمتها الوطنية.
ولذلك، فإن السيادة التشغيلية في العصر الرقمي تتطلب امتلاك منظومة موازية أو ضمانات صارمة من الدول المزودة.
رابعاً: المخاوف الأوروبية والكندية من طائرات F-35: التكنولوجيا كأداة نفوذ
رغم أن طائرة F-35 Lightning II تُعدّ من أكثر الطائرات تقدمًا في العالم، بفضل قدراتها في التخفي، جمع المعلومات، والاندماج الرقمي مع أنظمة القيادة والسيطرة، فإن هذه المزايا نفسها تمثل مصدر قلق سيادي لدى الدول الحليفة التي اشترت هذه الطائرات، أو شاركت في تطويرها ضمن برنامج “JSF – Joint Strike Fighter”.
أوجه القلق:
التحكم الأميركي في مفاتيح التشفير وبرمجيات التشغيل:
لا تمتلك الدول المشغّلة لطائرات F-35 التحكم الكامل في “نظام التشغيل البرمجي للطائرة” أو في شيفرات التشفير Secure Communications Encryption Keys، ما يعني أن التراسل الآمن للطائرة وحتى بعض وظائفها قد تبقى خاضعة للمصادقة من جهات أميركية.
منظومة ALIS / ODIN:
تعتمد طائرات F-35 على نظام رقمي يسمى ALIS (Autonomic Logistics Information System)، والذي تم استبداله لاحقًا بـ ODIN (Operational Data Integrated Network). هذا النظام يُرسل تلقائيًا بيانات تشغيل وصيانة الطائرة إلى مراكز تحليل في الولايات المتحدة، ما يخلق ثغرة سيادية حول:
- من يملك البيانات التشغيلية؟
- من يتحكم في تحديثات البرمجيات؟
- من يقرر صلاحية الطائرة للطيران أو التشغيل القتالي؟
3. التبعية في سلسلة الإمداد وقطع الغيار:
كل عملية صيانة أو تحديث رئيسي تتطلب إذنًا أو مشاركة من شركة Lockheed Martin أو البنتاغون، ما يمنح واشنطن أداة ضغط استراتيجية في حالات الخلاف السياسي.
الحالة الدنماركية: التكنولوجيا كأداة ضغط في سياق السيادة الإقليمية
تُعدّ الدنمارك من أبرز الدول التي أثارت تساؤلات حول تبعية طائرات F-35، ليس فقط من الجانب التقني، بل من البُعد الجغرافي الجيوسياسي.
خلفية التوتر:
في عام 2019، أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب رغبته بشراء جزيرة جرونلاند، وهي أرض دنماركية تتمتع بالحكم الذاتي وتُعتبر ذات أهمية جيواستراتيجية كبيرة في القطب الشمالي بسبب قربها من القواعد الأميركية ومواردها الطبيعية.
رفضت كوبنهاغن الطلب بشكل قاطع، لكن هذا الموقف فجّر تساؤلات حقيقية في الأوساط السياسية والعسكرية الدنماركية:
- هل يمكن لواشنطن معاقبة الدنمارك ضمنيًا عبر طائرات F-35 إذا تصاعد الخلاف حول قضايا مثل السيادة على جرونلاند؟
- هل تستطيع الولايات المتحدة أن تمنع وصول التحديثات البرمجية أو الصيانة الدورية للطائرة؟
- هل يمكن تعطيل وظائف حساسة مثل الرادارات المتقدمة أو منظومات الحرب الإلكترونية عن بُعد؟
هذه المخاوف ليست نظرية، بل ترتكز على سوابق تاريخية استخدمت فيها واشنطن نظم التحكم البرمجية كوسيلة للضغط، سواءً في مجالات الطيران أو الاتصالات أو حتى الطاقة النووية (كما حدث مع إيران وبرنامجها النووي من خلال الهجمات السيبرانية مثل Stuxnet).
المواقف الأوروبية والكندية: بين الحليف والقلق
كندا أجلت مرارًا قرار شرائها النهائي لطائرات F-35، وركّز النقاش السياسي الداخلي هناك على:
- مدى قدرة الدولة على صيانة الطائرات داخليًا.
- مستوى الشفافية الأميركية في مشاركة مفاتيح التشفير.
- مدى استقلالية القرار السيادي الكندي في استخدام الطائرات في العمليات العسكرية.
بريطانيا
- رغم كونها من الدول المؤسسة في برنامج JSF، عبّرت عن استياءها من رفض واشنطن تسليم مفاتيح برمجية أساسية في مراحل مبكرة من البرنامج، قبل أن تُمنح لاحقًا امتيازات استثنائية.
ألمانيا
- التي تملك قاعدة صناعية متقدمة، ما زالت ترى في F-35 طائرة ذات قيمة استراتيجية، لكنها تبحث في الموازاة عن تعزيز إنتاجها الوطني والدخول في شراكات مع فرنسا لبناء طائرة الجيل السادس (FCAS).
السيادة التشغيلية في مهب التكنولوجيا
في هذه الحالات تفتح بابًا أوسع لفهم كيف تحوّل السلاح المتقدم إلى أداة سياسية – ليس عبر تهديده المباشر، بل عبر إدارة تشغيله. فحتى في ظل علاقات التحالف الوثيقة، تبقى الرقمنة والبرمجيات عناصر تحكم رئيسية في مشهد السيادة الحديثة، تجعل من كل قطعة سلاح “ذكية” سلاحًا ذو وجهين: أداة ردع، وأداة تبعية.
خامساً: تأثير ذلك على الثقة بالسلاح الأميركي
رغم ريادة الصناعة الدفاعية الأميركية، فإن ممارسات التحكم التشغيلي تخلق حالة من عدم الثقة حتى بين الحلفاء. ومن أبرز التداعيات المحتملة:
- توجه الدول للبحث عن موردين بديلين أكثر حيادية مثل فرنسا، أو كوريا الجنوبية.
- تعزيز الاستثمار المحلي في الصناعات الدفاعية لتقليل الاعتماد الخارجي.
- المطالبة بضمانات تشغيلية كاملة قبل إبرام صفقات سلاح جديدة.
سادساً: مستقبل الصناعة العسكرية الأميركية: بين الريادة والتحدي
أمام الولايات المتحدة مفترق طرق:
- إما أن تحافظ على هيمنتها من خلال تقديم ضمانات سيادية حقيقية لحلفائها،
- أو تخسر تدريجيًا أسواقًا لصالح دول تقدم بدائل تكنولوجية لا تقيد الاستخدام.
في عصر التحول الرقمي العسكري، لم يعد السلاح مجرد معدة ميكانيكية، بل نظام متكامل متصل بشبكات وتحكمات، ما يعني أن “بيع السلاح” صار يعني ضمنًا “بيع جزء من السيادة”.
الخلاصة:
السيادة التشغيلية أصبحت أحد مفاتيح القوة الحقيقية في القرن الحادي والعشرين. الدول لم تعد تكتفي بامتلاك السلاح، بل تسعى الآن لامتلاك “مفاتيح تشغيله” المستقلة. وبينما تستمر الولايات المتحدة في فرض نظم تشغيلية خاضعة لسيطرتها، تزداد الحاجة لدى الحلفاء لتقليل التبعية، وبناء صناعات دفاعية مرنة.السباق لم يعد فقط على من يصنع السلاح الأفضل، بل على من يمنح استقلالية أكبر لمن يشتريه.
لذلك قرر الأتحاد الاوربي توفير قروض لدول الاعضاء لتطوير ترسانتها العسكرية على ان تستخدم هذه الاموال بعيداً عن الشركات الأمريكية وتقتصر على الشركات الاوربية.
مصادر:
- Michael Peck, How the U.S. Controls HIMARS in Ukraine, Forbes, 2023
- DefenseNews, European Concerns Rise Over F-35 Software Control, 2022