المقدمة
في هذا الوقت و نحن في قمة التنافس من أجل اللحاق في ركب التطور التكنلوجي تتسارع وتيرة التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي الذي أصبح محركاً رئيسيًا للاقتصاد العالمي وأداة استراتيجية لتحقيق التفوق في شتى المجالات. لكن في خضم هذا التطور، يبرز تساؤل جوهري: من يتحكم في هذه التقنيات؟ هنا يأتي مفهوم الذكاء الاصطناعي السيادي، الذي يُمكّن الدول من بناء أنظمة مستقلة تحمي بياناتها وتحافظ على سيادتها الرقمية بعيدًا عن الاعتماد على مزودي التقنيات الأجانب.
هذا المقال الجزء الأول يستعرض أهمية الذكاء الاصطناعي السيادي، ويبرز مشاريع حوسبة فائقة في دول مثل الدنمارك، فرنسا، سويسرا، والهند، التي تسعى لتعزيز سيطرتها الرقمية وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي السيادية التي تخدم مصالحها الوطنية. وكذلك أتطرق في الجزء الثاني لقسم مكمل للسيادة الرقمية وهو مراكز البيانات السيادية.
الجزء الأول . تعريف الذكاء الاصطناعي السيادي (Sovereign AI).
هو مفهوم يركز على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تتمتع باستقلالية وطنية تامة، حيث تكون خاضعة لسيطرة الدول المعنية دون الاعتماد على منصات أو تقنيات أجنبية. يهدف هذا النهج إلى حماية البيانات الوطنية الحساسة، تعزيز الأمن السيبراني، وضمان استقلال القرار التقني والسياسي بعيداً عن تأثير الشركات الكبرى أو الدول الأخرى.
أهمية الذكاء الاصطناعي السيادي
1. الأمن القومي:
الذكاء الاصطناعي السيادي يعد أداة أساسية لحماية الأمن القومي، حيث:
حماية المعلومات الحساسة: تضمن الأنظمة السيادية أن تبقى المعلومات الوطنية، مثل البيانات العسكرية والاستخباراتية، خارج متناول الدول أو الجهات الأجنبية.
الحد من التدخل الخارجي: يقلل الاعتماد على التقنيات الأجنبية من مخاطر التلاعب أو الاختراقات التي قد تؤثر على القرارات السياسية أو الاقتصادية.
الاستجابة للأزمات: توفر الأنظمة المستقلة مرونة أكبر في التعامل مع الأزمات الوطنية، مثل الكوارث الطبيعية أو الهجمات السيبرانية، دون الحاجة إلى الاعتماد على حلول خارجية.
2. السيطرة على البيانات:
السيطرة على البيانات تُعد أحد أبرز محاور الذكاء الاصطناعي السيادي، حيث:
حماية الخصوصية: تقلل الأنظمة المحلية من احتمالية تسرب البيانات الشخصية أو استخدامها بشكل غير قانوني من قبل أطراف أجنبية.
تحكم أفضل: تمنح الدول القدرة على إدارة وتحليل بياناتها دون قيود أو تأثير من مزودي الخدمات الأجانب.
منع الاستغلال التجاري: تضمن السيادة الرقمية أن البيانات الوطنية لن تُستخدم لتحقيق أرباح من قبل الشركات الكبرى أو لأغراض سياسية.
3. تعزيز الابتكار الوطني:
تطوير القدرات المحلية: يشجع الذكاء الاصطناعي السيادي على إنشاء مراكز بحثية محلية تعمل على تطوير تقنيات جديدة تلبي احتياجات الدولة.
زيادة التنافسية: الدول التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي السيادي تتمتع بقدرة أكبر على التنافس عالميًا من خلال منتجات وخدمات مبتكرة.
تعزيز الاقتصاد: يؤدي الاستثمار في الابتكار الوطني إلى خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاجية، وتحفيز النمو الاقتصادي.
4. السيادة التقنية:
التحكم بالبنية التحتية: تُمكن الدول من بناء وإدارة أنظمة الحوسبة والبنية التحتية التقنية الخاصة بها دون الاعتماد على الموردين الخارجيين.
تقليل الاعتماد على الاستيراد: يساهم الذكاء الاصطناعي السيادي في تقليل الحاجة لاستيراد التكنولوجيا، مما يعزز الاستقلالية الاقتصادية.
زيادة الثقة: توفر الأنظمة السيادية ضمانًا بأن العمليات التقنية تتم بشفافية ووفقًا لمصالح الدولة.
الجزء الثاني . مراكز بيانات سيادية
مع صعود الذكاء الاصطناعي السيادي، ظهرت الحاجة إلى مراكز بيانات سيادية تُدار وتُشغل داخل الحدود الوطنية. هذه المراكز تمثل بنية تحتية استراتيجية تسهم في حماية البيانات الحساسة وضمان استخدامها بما يخدم المصالح الوطنية. في هذا المقال، نستعرض أهمية مراكز البيانات السيادية ودورها في تعزيز الذكاء الاصطناعي السيادي، مع تصنيف للبيانات من حيث حساسيتها وأثرها على الأمن القومي.
تعريف مراكز البيانات السيادية.
مراكز البيانات السيادية هي منشآت تُخصص لتخزين ومعالجة البيانات الحساسة داخل الدولة، حيث تخضع للقوانين واللوائح المحلية. تهدف هذه المراكز إلى حماية البيانات الوطنية من المخاطر المرتبطة بالخدمات السحابية الخارجية، وضمان استقلالية البنية التحتية الرقمية وعدم خضوعها للمخاطر السياسية في وقت الأزمات.
أهمية مراكز البيانات السيادية
1. حماية البيانات الوطنية
ضمان السيادة: مراكز البيانات السيادية تضمن أن تظل البيانات تحت السيطرة الكاملة للدولة، بعيداً عن التشريعات الأجنبية مثل قوانين السحابة.
تقليل مخاطر التسرب: تُقلل احتمالية اختراق البيانات أو إساءة استخدامها من قبل جهات خارجية.
2. تعزيز الأمن القومي
التحكم في البيانات الحساسة: مثل المعلومات العسكرية والاستخباراتية التي تُعد أساسية لاتخاذ قرارات سيادية.
مواجهة الهجمات السيبرانية: وجود البيانات داخل مراكز محلية يُمكن من التعامل مع الهجمات الإلكترونية بشكل أسرع وأكثر كفاءة.
3. دعم الابتكار المحلي
تحفيز الاقتصاد الرقمي: مراكز البيانات السيادية تُعد أساسًا لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والأبحاث التي تعتمد على تحليل البيانات.
خلق فرص عمل: تشغيل هذه المراكز يحتاج إلى كوادر محلية مدربة في مجالات الحوسبة السحابية والأمن السيبراني.
4. ضمان الامتثال القانوني
التوافق مع القوانين الوطنية: تخزين البيانات محلياً يُسهل الامتثال للتشريعات التي تحكم خصوصية البيانات مثل القوانين الأوروبية (GDPR).
تفادي القيود الأجنبية: الدول التي تعتمد على مزودي خدمات خارجيين تواجه مخاطر تتعلق بتطبيق القوانين الأجنبية على بياناتها.
تصنيف البيانات من الأدنى إلى الأعلى حساسية
البيانات العامة:
بيانات مفتوحة للاستخدام العام مثل الإحصائيات الحكومية غير الحساسة.
أمثلة: بيانات الأرصاد الجوية، تقارير التنمية.
البيانات التجارية:
بيانات تخص الشركات والصناعات المحلية.
أمثلة: بيانات الأسواق، المعاملات التجارية.
البيانات الصحية والاجتماعية:
معلومات الأفراد الحساسة مثل السجلات الطبية أو البيانات الديموغرافية.
أمثلة: قاعدة بيانات المرضى، الإحصاءات السكانية.
البيانات السيبرانية:
بيانات تتعلق بالبنية التحتية الرقمية وأمن الشبكات.
أمثلة: سجلات الدخول إلى الأنظمة، تقارير التهديدات السيبرانية.
البيانات السيادية:
البيانات ذات الأهمية القصوى للأمن القومي.
أمثلة: معلومات استخباراتية، خطط عسكرية، بيانات الطاقة والبنية التحتية الحيوية.
فوائد التكامل بين مراكز البيانات السيادية مع الذكاء الاصطناعي السيادي
1. تعزيز الأداء المحلي للذكاء الاصطناعي
مراكز البيانات السيادية توفر بيئة آمنة لمعالجة بيانات الذكاء الاصطناعي محليًا.
دعم تطوير نماذج ذكاء اصطناعي مخصصة تلبي احتياجات الدولة.
2. تحقيق استقلالية القرار التقني
التكامل بين مراكز البيانات السيادية والذكاء الاصطناعي السيادي يمنح الدول القدرة على اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة دون تدخل خارجي.
3. دعم البحث والتطوير
تسريع عمليات تحليل البيانات والابتكار في مجالات مثل الصحة، الزراعة، والطاقة.
بناء نماذج تعتمد على البيانات المحلية مما يزيد من كفاءتها وملاءمتها للسياق الوطني.
4. تعزيز الأمن السيبراني
وجود البيانات في مراكز محلية يقلل من المخاطر المرتبطة بالخدمات السحابية الأجنبية.
يُسهل مراقبة البيانات والتفاعل مع التهديدات بشكل فوري.
مشاريع الحوسبة الفائقة لدعم الذكاء الاصطناعي السيادي
1. حاسوب الدنمارك الفائق للذكاء الاصطناعي “جيفيون”
المشروع: الدنمارك، كجزء من التوجه الأوروبي للذكاء الاصطناعي السيادي، تقوم بتطوير أنظمة حوسبة فائقة محلية لدعم أبحاث الذكاء الاصطناعي.أطلقت الدنمارك أول حاسوب فائق للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركة “إنفيديا” ومركز الابتكار الدنماركي للذكاء الاصطناعي.
يحمل هذا الحاسوب اسم “جيفيون”، ويتميز “جيفيون” بقدرات حوسبة عالية، ويعد الأقوى من نوعه في الدنمارك حيث يعتمد على 1528 وحدة معالجة متقدمة من نوع NVIDIA H100، ويستخدم تقنية شبكة NVIDIA Quantum-2 InfiniBand للاتصال السريع.
وتدير هذا الحاسوب شركة مركز الابتكار الدنماركي للذكاء الاصطناعي (DCAI)، التي تأسست بتمويل من مؤسسة نوفو نورديسك، وهي أغنى مؤسسة خيرية في العالم كونها تتبع شركة الادوية الدنماركية العالمية نوفو نورديسك، وصندوق التصدير والاستثمار الدنماركي.
الأهداف:
دعم الجامعات والصناعات المحلية في معالجة البيانات الضخمة.
تعزيز الاكتفاء الذاتي في المشاريع التقنية الحساسة.
المساهمة: الحاسوب الفائق الدنماركي يعزز معالجة البيانات للقطاعات الصحية والبحثية، ويضمن التحكم الكامل في المعلومات الوطنية.
2. الحاسوب الذي تبنيه فرنسا وسويسرا
المشروع: فرنسا وسويسرا تعملان معًا على تطوير حاسوب فائق باسم “Jean Zay” يُعد من بين الأقوى في أوروبا.
الأهداف:
دعم تطوير الذكاء الاصطناعي ضمن استراتيجيات الاتحاد الأوروبي للسيادة الرقمية.
التركيز على تطبيقات مثل المحاكاة المناخية، الذكاء الاصطناعي الطبي، وتطوير حلول الطاقة المستدامة.
الأهمية:
المشروع جزء من شبكة أوروبية لتعزيز استقلالية القارة في مجال الحوسبة المتقدمة.
3. الحاسوب الفائق الذي تطوره الهند
المشروع: الهند تطور حاسوباً فائقاً ضمن مبادرة “National Supercomputing Mission (NSM)”.
الأهداف:
تعزيز قدراتها في الذكاء الاصطناعي والتنبؤات المناخية.
خدمة الأبحاث الزراعية والطبية.
الأهمية:
يُعد الحاسوب أحد أعمدة الذكاء الاصطناعي السيادي للهند، حيث تركز على تقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية في هذا المجال.
التحديات أمام الذكاء الاصطناعي السيادي
تكلفة التطوير:
بناء البنية التحتية للحواسيب الفائقة يتطلب استثمارات ضخمة.
تحديات الابتكار:
الدول بحاجة إلى تطوير تقنيات منافسة لمواجهة المنصات التجارية العالمية.
نقص المواهب:
تحقيق الاستقلالية يتطلب تدريب الكوادر المحلية في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة.
الخاتمة
يعد الذكاء الاصطناعي السيادي خطوة استراتيجية نحو تحقيق استقلال تقني وابتكار محلي. من خلال مشاريع الحوسبة الفائقة مثل تلك التي طورتها الدنمارك، فرنسا، سويسرا، والهند، تسعى هذه الدول إلى تعزيز سيادتها الرقمية وضمان حماية بياناتها الوطنية. يمثل هذا التوجه نموذجًا ملهمًا للدول الأخرى للاستثمار في البنية التحتية التقنية لبناء مستقبل أكثر أمانًا واستقلالية.
ومع تزايد أهمية البيانات كمورد استراتيجي، تمثل مراكز البيانات السيادية والذكاء الاصطناعي السيادي حجر الزاوية لتحقيق استقلال رقمي يحمي المصالح الوطنية. من خلال الاستثمار في هذه البنية التحتية، يمكن للدول أن تعزز أمنها القومي، تضمن حماية بياناتها، وتوفر بيئة خصبة للابتكار التقني. يُعد هذا التوجه خطوة أساسية نحو بناء مستقبل رقمي آمن ومستقل.
________________________________________
المصادر
تقارير الاتحاد الأوروبي حول الذكاء الاصطناعي السيادي.
وثائق مبادرة “National Supercomputing Mission” الهندية.
أخبار مشروع الحاسوب الفائق Jean Zay.
مركز الأتحاد للأخبار في أبو ظبي